a24- ليلى خزيمة
“كتعجبني، كتعجبني،كتعجبني”.نحن من قالها ويقولها وسيقولها،لا كلمات الأغنية. كيف لا ونحن في حضرة عميد الأغنية والإبداع، برفقة من غنى له فنانوا العالم العربي من مطربين وممثلين وعشاق وبلهجتنا المغربية الدارجة دون أن يقول أحدهم لهجة يصعب فهمها أو التحدث بها. فالمشاعر والإبداع والفن ينبع من القلب ليصل إلى القلب. أوصل صوته وهويته المغربية ولغته للعالم ولم ينبس بكلمة للتباهي أو التفاخر المبالغ فيه. بل ترك إبداعاته تتحدث وتقول ما لا يمكن للكلمات أن تصفه.
ربما سيقول البعض أننانغالي بهذه العبارات، لكن نحن فقط نقول إننابالرفقة الطيبة للموسيقار عبد الوهاب الدكالي في مكان ينعته بالصغير، لكن عندما تدخله تسافر عشرات السنين عبر بوابة زمن الإبداع.زيارة قصيرة، لكن مليئة بالمغامرات في متحف، جدرانه وأرضيته وسقفه وأروقته تتحدث عن لسان صاحبه.
في يوم خميس، جَلَسَتْ جريدة المنعطف على بساط ريح الموسيقار عبد الوهاب الدكالي الذي فتح لنا قلبه قبل أبواب متحفه، ليحكي لنا القصة، بل ليُطربنا بطريقته المميزة بحكايات المعروضات ويشرح لنا لما؟ وكيف؟ ومتى؟
«أيام قليلة قبل الجائحة التي أصابت العالم بأسره وحَدَّتْ من حركته، جائحة كرونا، كنت جالسا على مائدة الطعام مع أفراد العائلة، وإذا بابنيآدم وابنتي عايدة يسألونني: بابا، هناك أوسمة ومقتنيات كثيرة موزعة على المنزل، منها ما علق على الجدران وما وضع على الطاولات. فما قصتها ومن أين أتت؟ قلت لهما: هي من جمهوري وعشاق ومحبي أعمالي. فقال ليآدم: لما لاتضعها في متحف؟ فابتسمت حينها ولم أعلق على الفكرة. ليس لأنها لم ترقن، ولكن، لأنها جعلتني أفكر.
وشاءت الأقدار بعد ذلك،واجتمعت ببعض الأصدقاء هنا في مدينة الدارالبيضاء وتحدثنا عن الموضوع وراقت، بل وأعجبتهم الفكرة وشجعوني على التمعن فيها ومحاولة إخراجها للوجود. بعدها، سافرت إلى مدينة مراكش للعمل. وهناك، التقيت بأصدقاء شباب منهم محامون وكتاب وأدباء ودكاترة ورجال علم. فأسسنا مؤسسة اسميناها “مؤسسة عبد الوهاب الدكالي للفنون والإبداعFADAC”».
ورغبة منه في تحقيق هذا المشروع، سَخَّر كل المجهودات. فكر وخطط واستشار وبدأ ينفذ على الفور،لتشهد شقة الحرية،التي عاش فيها لأزيد من 26 عاما، ميلاد المتحف. اختياره لهذا المكان لم يكن بمحض الصدفة. فعمارة الحريةأو كما يعرفها البيضاويون الديساتإيطاج من أعرق المباني بمدينة الدارالبيضاء. بنيت عام 1951 على يد المهندس السويسري ليورنارد رونيه موراندي لتكون حينها إحدى أعلى المباني وأول ناطحات السحاب بإفريقيا.
من هنا جاءت فكرة تحويل هذا الفضاء الزاخر بالحكايا والأحداث إلى متحف يعرض ذكريات ماضي وحاضر ومستقبل الإبداع. فبالإضافةإلى أنه مكان له تاريخ حافل، فقد سكنه كبار المبدعين أمثال: رجل الأعمال جاك لوميكرديبروي الذي نادى باستقلال المغرب ودفع حياته ثمنا لذلك والمستشرقة دونيس ماصون الملقبة بسيدة مراكش والتي ترجمت القران الكريم والكاتب جون بيير ميليكام وآخرون. «أعجبتني الفكرة. وفي فترة الوباء، جئت إلى هذه الشقة وحدي. كان المكان خاليا وأخذت أوراقي وقلمي وبدأت تصميم ديكور المتحف المستقبلي. عندما انتهيت، كانت الفكرة قد اختمرت جيدا في رأسي، وأصْبَحَت معالمها تتبدى لي شيئا فشيئا.».
عندها، وكما عادته النشيطة والنشطة، قال عبد الوهاب الدكالي حيى على العمل:«بعدما علم الأصدقاء بمشروعي، بدأوا بإعطائي بعض المقترحات. وأنا أقولها، الآراء النيرة دائما ما تأتي بالجميل والجيد ويجب الأخذ بها. في بداية العمل والتغييرات لتجهيز فضاء المتحف،أول ما قمت به هوإزالة الأبواب حتى لا يكون هنالك حاجز يمنع جمهوري الزائر من التجوال والاستمتاع بالمعروضات، ولكي أفتح المجال ليصبح فضاء واسعا ومنفتحا ومضيئا. وضعت الديكور واستغرق الأمر عدة أشهر. فكنت أضع الأشياء وأغير موضعها في كل مرة.أجرب وأحاول وأغير. إلى أن اكتمل المشروع الذي رغبت أن يكون هدية مني للمعجبين بفني.»
أيقونات متحف الابداع
تبدأ رحلة زائر متحف عبد الوهاب الدكالي عند أول خطوة من بابه، لتعطي فكرة عن الآتي. فكما نقول في أمثالنا المغربية “علامة الدار على باب الدار”. وهنا كل شيء يشير إلى الإبداع والخاصية. عندما تدخل، ينتابك شعور غريب بالراحة. أحاسيس ومشاعر تتسلل بداخلك، تناديك إلى اكتشاف واقع خيالي. حكايات متسلسلة فيها تشويق. تنظر وتتطلع إلى اللوحات المعلقة وصوت الموسيقار يشرح لك ويحدثك عن ظروف وحيثيات ما ترى وعن بعض المستملحات التي جرت هنا وهناك. أي متعة. فزائر المتحف يهوى الصورة وينتشي بالصوت. بعد هذا الممر المليء بالذكريات، تتسع مساحة الإبداع وتتطور الرؤيا، لتتفتح عن صالون أدبي وعلمي واجتماعي ومراسمي به لوحات لفاطمة المرنيسي، وانشتاين وماهاتما غاندي وشارلي شابلين وغيرهم. صور ودلالات وخيال شاسع: «لدي العديد من اللوحات. فمتحفي لا يضم إلا اللوحات الزينية والأصلية. فهناك أزيد من أربعة وعشرون لوحة من الأصدقاء وعشاق أعمالي وفنانين مبدعين.» كل لوحة ترسم ملامح شخصية معينة.«العلم والفكر والسينما والسياسة كلهم مجتمعون هنا. فالإبداع لا يُحصر في عمل معين أبدا. والمبدع يرزقه الله». خزانات المتحف الزجاجية تحتضن بكل حب ولطف مفاتيح مدن وعواصم صدح بها صوت إبداع عبد الوهاب الدكالي فأبت إلا أن تسلمه مفاتيحها وتقول له أنت صاحب الدار زُرْنا ومتعنا كلما سنحت لك الفرصة،كالمفتاح الرمزي لمدينة فاس ومكناس ونيوجيرزي. بينما خزانات أخرى توثق للانضباط والجدية التي لا تناقش في مواعيد الموسيقار. ساعات مختلف ألوانها وأشكالها. أَحبُ هذه الساعات تلك التي ورثها عن أبيه وعمرها الآن 160 عاما ولا زالت تعمل، وهي خير دليل على أن المبدع تُخلد أعماله سنين طوال.
أما الجوائز التي جمعها عبد الوهاب الدكالي، فموضوعة تتباهى بوجودها بين هذه المقتنيات. فهي حصاد السنين وبرهان الإبداع والاعتراف بالتفرد. فهو الذي حاز على الجائزة الكبرى لمهرجان القاهرة الدولي برائعة سوق البشرية،متفوقا على 53 دولة والتي لم يحصل عليها أحد إلى الآن غيره. كما حاز على واحدة من اثنتين خلال مهرجان موازين إلى جانب كوينسي جونس. لتسافر بعدها من خلال جوازات السفر المغربية باسم الفنان.جوازات تشهد على العديد من رحلاته حول العالم.
مسار مرسوم بعناية ودقة، توثق له الكتب والمنشورات والنوتات الموسيقية التي يُسمع صداها من خلف الزجاج وترقص على الرفوف لتأخذك إلى عالم الصورة. هذه الأخيرة تفتح المجال للزائر ليتعرف عن بعض جوانب حياة المبدع بدءا من صورة معالم الغرفة التي شهدت ولادته،إلى تلك التي توثق للقاءاته المتعددة بشخصيات بارزة في العالم، أولها صور له مع المغفور له الملك الراحل الحسن الثاني والبابا بونوا السادس عشر وغيرهم.«هناك شواهد وأسطوانات ذهبية وتحف وأوسمة وكل ما كتب في الصحافة منذ الستينات. مايقارب 32 كتابا فيهم العديد من المقالات وصور العائلة وصورة للغرفة التي ولدت فيها. كل الأشياء تتحدث عن نفسها».
أما الآلات الموسيقية، فهي رفيقة الدرب. تصاحبك منذ أول خطوة إلى أن تغادر المتحف. تدخل بعدها عالم الأوسمة. وهو فضاء قائم بذاته، يشغل مساحة واسعة فترغب في رؤية هذه، لكن تنجذب عينك إلى أخرى، فالتالية وما بعدها إلى أن تصل إلى مدخل، هو بداية عالم آخر. يمينا وشمالا، فضاءات تتفتح على عالم الأزياء. بدلات السهرات التي كانت تُنْجز خصيصا للمناسبة وبأدق تفاصيلها. حتى الأحذية لها نصيب من التألق في هذا المتحف. أقمشة وتصاميم تؤرخ لحقب متتالية وتحكي بلغة النبل والإبداع في الصنعة وترصد المستجدات والتغيرات التي طرأت على عالم الأزياء. وفي تواتر واسترسال وأنت ترى وتتفقد وتتلمس هذه المقتنيات، لأن الموسيقار لا يعترف بكلمة «”ممنوع”، فاختيار الكلمات صنعة»، تجد نفسك في غرفة بها إبداعات الفنان في مجال الرسم بقلم الرصاص. بعدها، قاعة السينما. فضاء،إضاءته خافتة. تعرض فيه الأفلام السينمائية والوثائقية للمبدع. لتُنار بعدها الأضواء على اللوحات الزيتية التي تحفل بها جدران هذا المكان. تحس بعدها بالدوران. فقد سنحت لك الفرصة بأن تتلقى زخما إبداعيا ومعرفيا في وقت قصير. عندها يدعوك صاحب هذا الإبداع للاسترخاء وسط عالم أخضر داخل الحديقة المعلقة على علو 78 مترا. وهنا، تختفي الكلمات ويخيم الصمت. منظر يقطع الأنفاس. صورة بانوراميه تشهد على روعة المدينة البيضاء. فكما يقول عميد الأغنية المغربية:«هنا في متحفي توجد شرفة بإطلالةبانوراميه على مدينة الدار البيضاء كما لم تروها من قبل. إطلالة من الأعلى ترى فيها سحر هذه المدينة الجميلة بمعمارها وسكانها وبياض أبنيتها. البعض يقول لا وجود للنخل أو المساحات الخضراء بالبيضاء، عندما يراها من هنا، سيكتشف أن الخُضرة تزين كل أرجائها.». حينها، تكتشف أنك كنت في عالم الألف ليلة وليلة بنهايات كلها سعادة.
كثيرون هم الذي زاروا هذا المتحف واستمتعوا بالرفقة الطيبة لصاحبه: «ولله الحمد كل من يزور المتحف يعجب به. وهناك كثيرون ممن شرفوني بالحضور. أولهم مستشار صاحب الجلالة السيد أندري أزولاي والسيد وزير الثقافة وسفير جمهورية الصين والقنصل العام للولايات المتحدة والعلامة والأديب السيد إدريس الضحاك والأستاذ نورالدين الرياحي والكثير من الأصدقاء والفنانين والفنانات والجمهور والمعجبين. وما يفرحني الآن هو توافد تلاميذ المدارس. يتصلون ويأتون للزيارة. ينشرح صدري للقائهم وللإجابة عن كل أسئلتهم التي ما شاء الله في محلها وتنم عن فطنة وذكاء متميز…هذه المقتنيات هي كل ماحصده الجمهور منذ سنوات وسنوات طوال. وما فعلته هو محاولة المزج ما بينها في معرضي الدائم كهدية وتكريم لجمهوري.»
المتحف قار، لكن ديكوره متغير ومواضيعه متنوعة ومريدوه مختلف أشكالهم وتوجهاتهم. عالم أساسه، مبدأه ومنتهاه الإبداع: «كل أسبوعين أغير مكان المقتنيات وأعطي الفرصة للشباب لتعلم الموسيقى وأخذ دروس في الرسم مرة أو اثنتين في الأسبوع لتعلم المبادئ الأولى في الفن التشكيلي والابداع. كما أن المتحف فسحة لإبراز آخر الإصدارات وإلقاء المحاضرات لكتاب شباب أصدروا كتاباتهم،أمام الجمهور والمحطات الإعلامية. وسيكون معرضا للفنانين التشكيليين ليستمتع الزوار ونشجع المبدعين. المتحف هو فضاء للجميع ليخطوا خطواتهم الأولى ويبرزوا إبداعاتهم. سنحاول تعليم مبادئ الموسيقى الأولية. وستكون هنالك لقاءات خاصة عن حكايا أغنياتي وإنتاجاتي. سيكون هنالك ندوات ينظمها ممثلون وممثلات وعروض بالقاعة المخصصة لعرض الأفلام والفيديو كليبات.»
متحف عميد الأغنية المغربية، يذكرنا بلعبة العرائس الروسية. كلما فتحت واحدة، تجدها تنطوي على تحفة أخرى. سخاء لا يضاهيه إلا الثمن الرمزي الذي يضعه للزيارة: «ثمن الدخول إلى متحفي هو ثمن تشجيعي 95 درهما، وبالمجان للعمال والأطفال والفنانين. من لديه يدفع ومن لا يملك لا حرج عليه. يكفي أن يتصل عبر 0522312024 كي نحسن استقباله».
رحلة النصر لم تنته، فالمتحف فيه روح متجددة: «كل التحف في معرضي لها ذكرى جميلة وأفتخر بها.فالحمد لله أنني وصلت لهذا ليتعرف الجمهور على كل ما حصدناه خلال هذه السنوات. وما هي إلا البداية لمشروع كبير.»