a24- حسن عين الحياة
كان شاحب الوجه، بالكاد يقف على قدميه.. يتنفس بعمق، ويرفع هامته بأنفة وشموخ، يحاول من خلالهما أن يخفي تعبه الشديد، أو على الأقل أن يهزم المرض الذي أخذ كل وقته، وجعله حبيس منزله الأشبه بـ”الزاوية” في شارع 11 يناير بالدارالبيضاء، والتي أضحت مزارا لعدد من الفنانين والمثقفين، ممن يحملهم الشغف لمجالسته.هذه واحد من الصورالعاقلة في ذهني عن الفنان المقتدر عبد العظيم الشناوي، الذي خطفته المنية في 10 يوليوز 2020.. إذ رغم الإنهاك الشديد، أصر هذا الفنان أن يحضر بنفسه لتأطر ندوة فكرية بمركب سيدي بليوط، حتى يوثق شهادته التي تلخص مسار حياته الفنية، وذلك في إطار توثيق الذاكرة المسرحية بالدارالبيضاء لجمعية فضاء القرية للإبداع بمناسبة اليوم العالمي للمسرح. والمثير أن هذا الفنان أظهر قوة رهيبة وهو يلج القاعة كشاب في العشرين.. وبدا كما لو أنه ترك كل ألامه وإنهاكه ومعانته مع المرض في السيارة التي أقلته، وانطلق في حديث مستفيض شد إليه انتباه واستماع الحاضرين.
هذا هو الراحل عبد العظيم الشناوي.. إعلامي مخضرم وفنان موهوب ومبدع تختزل مسيرته فصلا من التاريخ الفني والإعلامي للمملكة، حيث وصفه الملك محمد السادس، في برقية تعزية ومواساة بعثها إلى أفراد أسرنه، بـ”الفنان المقتدر” و”القامة الفنية الكبيرة” مستحضرا”إسهاماتها المبدعة والرائدة في إشعاع الفن المسرحي المغربي”.
والآن، عندما تنقب في الأرشيف الثقافي والفني والإعلامي للمغرب الحديث، يستوقفك الفنان عبد العظيم الشناوي، كقامة فنية نقشت اسمها في السجل الذهبي للمملكة، كمبدع موهوب ومؤسس ورائد، منذ اقتحامه عالم المسرح في أربعينيات القرن الماضي، وإلى غاية وفاته في صيف 2020.
ولد عبد العظيم الشناوي في المدينة القديمة للدارالبيضاء سنة 1939، وإن كانت بعض المراجع تؤرخ ولادته عام 1935. ومهما يكن، فإن الشناوي، من مواليد ثلاثينيات القرن الماضي. وهي حقبة موسومة بنضال وكفاح المغاربة ضد المستعمر الفرنسي، خاصة في الحي الذي رأى فيه النور، والذي كان وقتها القلب النابض لكازابلانكا. لكن بعد ولادته بسنوات قليلة، ستقطن عائلته الشناوي في درب السلطان، الحي الذي كان يعج بالمقاومين والفدائيين.. وخلال هذه الفترة دشن الطفل الشناوي تعليمه بمدرسة محمد بن يوسف التي حملت اسم “المحمدية”، قبل أن ينتقل إلى إعدادية الأزهر الأولى في منطقة “بياضة” بـ”لاجيروند”. لكن قبل هذه المرحلة، سيجر القدر الطفل الشناوي للمسرح وهو مجرد طفل صغير، بالكاد أكمل ثماني سنوات.
خلال أربعينيات القرن الماضي، وهذا ما قاله الشناوي في بوح مستفيض، كانت بقيسارية الحفاري في درب السلطان ساحة فارغة، بها خشبة تم إعدادها خصيصا للعروض الفنية والمسرحية. وكانت نشيطة أكثر في شهر رمضان، حيث يُقبل عليها الناس كل ليلة لمشاهدة العروض التي يُمَرّر من خلالها الوطنيون رسائلهم التي تدعو إلى الإخلاص والوفاء للوطن… فضلا عن طقس فريد من نوعه يتجلى في اعتماد العائلات في الأعراس على العروض المسرحية المشحونة بالرسائل المناهضة للمستعمر، والتي كانت إحداها سببا في عشق الشناوي للمسرح. كان ذلك في أواخر سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، حينما أقامت إحدى العائلات عرسا في الحي، واستقدمت، كما جرت العادة آنذاك، فرقة مسرحية للتنشيط، وكانت هذه الفرقة تعتمد في عرضها على طفل صغير يقوم بدور كبش أضحية العيد. ولأن الفرقة حضرت دون الطفل، خرج أحد أعضاء الفرقة للتنقيب عن طفل في الحي ليؤدي الدور، فصادف وجود الشناوي في محيطه.. وبعد حديث قصير أقنعه بتمثيل دور الكبش، ولقنه بضع كلمات، فكان حضوره مبهرا في العرض، ما دفع أعضاء الفرقة إلى مرافقة هذا الطفل إلى حيث تقيم عائلته، وأقنعوها بانضمامه إلى فرقتهم فوافقوا، ومن تمَّ أخذ يشارك معها في عدد من العروض المسرحية، دون أن يفرط في دراسته.
لقد ساهم المسرح في تطوير الشناوي لمهارته في الأداء، خاصة فن الحوار.. وهنا يقول بعض الذين واكبوا بداياته، إن الشناوي كان مميزا بصوته الجهوري، وبفصاحته، وبسرعة بديهته في الارتجال.. ولعل ذلك هوما أهله خلال خمسينيات القرن الماضي للاشتغال في التلفزة بالدارالبيضاء، وكانت مملوكة لشركة “تيلما” الفرنسية التي كانت أول شركة في إفريقيا تدشن مقرا لها انطلاقا من المغرب، غير أنالعمال سيتوقفون عن الاشتغال مباشرة بعد نفي السلطان محمد الخامس. لكن فور حصول المغرب على استقلاله، عاد الشناوي بقوة للمسرح الذي كان قد دشن من خلاله مشوارافنياحقيقيا مع فرقة “الكواكب” رفقة المرحوم “البشير لعلج “، حيث قضى بين ظهرانيها سنوات امتدت إلى أواخر الخمسينات، قدم خلالها عشرات العروض المسرحية بسينما “فيردان” و”الكواكب” بالدار البيضاء، إضافة إلى جولة فنية طارت به إلى تونس، رفقة بعثة من الفنانين المغاربة، وكان وقتها قد ألف 22 مسرحية،مكنته من نيل عضوية المكتب الأفريقي لحقوق التأليف عام 1959. وخلال هذه السنة شد عبد العظيم الشناوي الرحال إلى مصر لدراسة السينما التي كانت لها جاذبيتها، وقد ساعده في ذلك حصوله على منحتين من وزارتي الخارجية والتعليم.
وبحسب المهتمين بالمسار الفني للشناوي، لما أنهى عبد العظيم دراسته في القاهرة، عاد إلى المغرب من أجل خدمة السينما في وطنه، فلم يجد سوى استوديو واحد في مدينة الرباط بحي السويسي. حيث اضطر للاشتغال فيه “دوبليرا” صحبة رفيقه في المسرح البشير لعلج.
ومع مستهل عام 1961، فكر الشناوي في تأسيس فرقته الخاصة، مستثمرا فيها تجربته في التأليف والإخراج والسينما، فأسس فرقة “الأخوة العربية”.. وانطلاقا من بحثنا في الأرشيف المسرحي للدارالبيضاء، التحق بهذه الفرقة نخبة من المبدعين المسرحيين كعبد اللطيف هلال وعائد موهوب والبشير سكيرج ومحمد مجد والزعري والداسوكين وعبد القادر لطفي وسعاد صابر وزهور السليماني وصلاح ديزان ونعيمة بوحمالة… وآخرون أمثال نورالدين بكر ومحمد بن ابراهيم، إضافة إلى ثريا جبران، التي يقول الشناوي إنه كان وراء اختياره لاسمها الفني، باعتبارها تحمل اسم السعدية قريطيف، حيث سماها “ثريا” واختار لها لقب “جبران” نسبة إلى محمد جبران زوج اختها.وكانت هذه الثلة من الفنانين قد قدمت باسم فرقة “الأخوة العربية” أكثر من 18 مسرحية، أبرزها “الطائش” و”الحائرة” و”انكسر الزجاج” و”دار النسيان” وأعمال أخرى تحتفظ بها الذاكرة المسرحية البيضاوية، جلها من تأليف وإخراج عبد العظيم الشناوي.
وموازاة مع المسرح عمل الشناوي في الإذاعة من خلال برنامج “رفه عن نفسك” وكان مؤلف مسرحيات هذا البرنامج الفنان القدير الطيب لعلج، والذي قال عنه الشناوي يوما إنه تعلم منه فن التأليف. وسيشعر الشناوي، وفق المعطيات التي حصلنا عليها، بأهمية الراديو، في 29 فبراير 1960، عندما هز الزلزال مدينة أكادير، حيث كان رفقة الموظفين يطمأنون المواطنين ويمدونهم بآخر المعطيات ليل نهار، وكذا البحث عن المفقودين، فضلا عن ربط الصلة بين سكان أكادير والمدن الأخرى.
من الإذاعة سيدشن الشناوي دخولا قويا إلى التلفزة المغربية في بداياتها الأولى، من خلال انتاج عدد من السهرات، بعضها كانت من أعماله، قبل أن يشرع في إنتاج برامج والسهر على إخراجها، كبرنامج “فواكه الإهداء”، و”مع النجوم” عام 1978، و”نادي المنوعات” عام 1979، و”قناديل في شرفة الليل” عام 1980.
ومع انشاء إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية بطنجة)ميدي 1( عام 1980، التحق بها عبد العظيم الشناوي رفقة الفنانين عبد القادر مطاع ونعيمة المشرقي، من خلال عقد عمل مدته عامان فقط، غير أن الشناوي سيستمر فيها لما يزيد عن 20 سنة، اخرج خلالها حوالي 50 برنامجا، أولها “الفن في العالم” وآخرها “الحرب العالمية الثانية” وكان برنامجا إذاعيا من 160 حلقة، ألفها الكاتب الكبير محمد شكري، وقدمها الشناوي بصوته الجهوري المثير. كما عمل الشناوي بالقناة الثانية “دوزيم” من خلال برنامج “حظك هذا المساء” الذي استمر عامين، 1998 و1999.ثم عاد للتمثيل في برنامج “مداولة”، وإلى المسرح كمخرج لمسرحية استعراضية من تأليف عبد العزيز الطاهري بعنوان “بين البارح واليوم”.
وآخر ما أبدعه عبد العظيم الشناوي شريط سينمائي قصير عنونه بـ”المصعد الشرعي”.
كان هذا مسارا موجز الفنان مخضر معاصر أكثر من جيل من أهل الفن والإعلام والأدب والسياسة..مبدع محبوب لدى المغاربة، سواء الذين خبروا قدراته على الركح أومن عايشوا مشواره الإعلامي على شاشة التلفزيون،أو الذين سافروا مع صوته الدافئ على ضفاف الإذاعة ردحا من الزمن.