بقلم: الأستاذ عبد الحكيم قرمان
1 – خلاصات من وحي الواقع والممارسة
إن ما وصل إليه واقع المشهد السياسي من أزمات وتراجع العمل الحزبي على وجه التحديد في أداء مجمل وظائفه المجتمعية ومهامه الدستورية والمؤسسية، يعتبر، من جهة، محصلة طبيعية ونتيجة منطقية لمسلسل طويل من الممارسات والاستراتيجيات التي انتهجت ومورست منذ بداية السبعينيات، والتي كان الهدف منها إفراغ العمل الحزبي الجاد من محتواه وذلك من خلال تأسيس أحزاب مصطنعة من طرف الدولة والنفخ فيها وإضعاف الأحزاب ذات الحمولة القيمية الديمقراطية والارتباط الجماهيري والقدرة التأطيرية في مختلف مستوياتها، سواء بالتضييق عليها أو عن طريق القمع أوالإغراءات واستدراج النخب وخلخلة البنيات التنظيمية للأحزاب لإضعافها والتحكم فيها.
ومن جهة أخرى، يمكن اعتبار ما وصلت إليه الممارسات الحزبية عموما، وضمن الصف الوطني الديمقراطي تحديدا، من انحدار في الأداء وضمور في التأطير والتكوين والتنشئة، وما اعتراها من عوامل التعرية والاضمحلال التنظيمي والتواصلي، يمكن تفسيره في الأعم من خلال مجموعة من العوامل نذكر منها ؛
2 – تجليات أزمة العمل الحزبي وترهل النخبة السياسية
انزياح تدريجي للبنيات الحزبية عن مساراتها النضالية ومنطلقاتها الفكرية وتقاليدها التنظيمية، بالتالي فقدت روحها وعلاماتها المميزة لكينونتها وشكلها وأدائها وخطابها، مما أفضى إلى وسمها بالصورة الباهتة غير المغرية بالنسبة للمواطنين؛
تحول البنيات الحزبية من فضاءات استقبال وتكوين وتنشئة وتأطير وفقا لمناهج وبرامج حزبية تعكس هوية ومشروع كل هيئة حزبية في استقلالية وتمايز عن بعضها وعن السلطلة، مما يتيح للمواطنين القدرة على التفاعل معها ويعطي الفرصة لروادها ومنخرطيها لكي يتفاعلوا ويطوروا من إمكانيات أحزابهم التنظيمية والتواصلية في جو من التنافس والإبداعية والفعالية في صنع الأحداث والتأثير عليها؛
ضعف الممارسة التدبيرية المؤسساتية داخل غالبية الأحزاب وتحويلها إلى بنيات عائلية أو قبلية وفي بعضها إلى تجمعات للمواطنين لم يعد يربطهم الكثير من الوشائج الفكرية والقيمية والأهداف المشتركة، بحيث أصبحت بالنسبة لكثير من المواطنين والمناضلين، مجرد محطة للعبور أو لتدبير مسارات شخصية على حساب أداء الواجبات المتصلة بانتظارات المجتمع والسعي للتعبير عن تطلعاته المشروعة والترافع والنضال من أجل بلوغها؛
ضعف الحكامة الديمقراطية والممارسات الجيدة داخل البنيات الحزبية وانحباس ديناميات تهيئ وتشكيل ودوران النخب، الشيء الذي أفرز جيلا من السياسيين الشعبويين والفوضويين الانتهازيين، أساؤوا لصورة ولنضالية الأحزاب الوطنية والديمقراطية التي شكلت تاريخيا “مدارس”، وان لم تصل إلى المبتغى المنشود في وقتها، لكنها أدت أدوارها التاريخية في النضال من اجل التأسيس وتعميق الهامش والمسار الديمقراطي ببلادنا بشكل أكثر وضوح وأكثر نضالية ومصداقية.
3 – مخاطر التطبيع مع واقع التبخيس وتأزيم العمل السياسي المنظم
وهكذا، يمكن القول أن ما أصبح يهدد الممارسة السياسية ببلادنا هو محاولة تعميم نموذج “الحزب الإداري” العتيق، نموذج أريد به، في مرحلة ما من تاريخ المغرب، التشويش على العمل السياسي الجاد وضرب المصداقية السياسية في العمق للدفع بالجماهير إلى العزوف عن السياسة والنفور من الأحزاب لتخلى الساحة لذوي النيات المبيتة وليصبح الحقل السياسي مرتعا للانتهازيين و الوصوليين، وهو ما حصل وتجسد اليوم بوضوح.
أمام هذا الوضع المثير للتساؤل حول مستقبل التجربة الديمقراطية الفتية ببلادنا، بالتالي يتوجب الانكباب على بلورة إصلاح شمولي للحقل السياسي بشكل عام، والحقل الحزبي على وجه الخصوص، حتى يتم رد الاعتبار لنبل العمل السياسي والحزبي واسترجاع المؤسسات التمثيلية في كل مستوياتها التشريعية والترابية مضمونها ومعناها وتقوم بأدوارها المجتمعية والتنموية على أفضل وجه.
4 – في الحاجة إلى تجديد الفعل الحزبي عبر تغير المنظار والرؤية
لكن رغم التباس صورة المشهد، التي يسعى البعض إلى تكريسها لغاية في أنفسهم، فإن هناك عدد من القوى الحية ومعها جزء كبير من المواطنين والمواطنات، الواعون بضرورة التصدي للأخطار المحدقة بالبلاد وإيمانا منهم بالإمكانيات المتاحة لفتح آفاق جديدة لتقوية البناء الديمقراطي ببلدنا، لاسترجاع الثقة واستعادة المصداقية للعمل السياسي النبيل، تحدوهم الرغبة والعزم والالتزام والقناعات الراسخة بضرورة تكثيف الجهود وتجميع كل الإرادات الصادقة بغية المساهمة في بلورة مشروع الإصلاح والتحديث للمنظومة القانونية والقيمية والمؤسسية للعمل السياسي والحزبي ببلادنا، بما يستجيب لانتظارات وتطلعات غالبية أبناء الوطن، عبر توفير الشروط الموضوعية والمؤسساتية الملائمة، لتمكينهم من ولوج العمل الحزبي للمساهمة في العمل السياسي الناضج والمسئول.