حسن عين الحياة
لا حدث علا في المعرض الدولي للكتاب والنشر الذي احتضنته، ولأول مرة، العاصمة الرباط، عن حدث نزول الموسيقار عبد الوهاب الدكالي ضيفا وازنا وباذخا ومثيرا في رواق دار التوحيدي.. تلك التي انفردت بنشر بمذكراته التي تختزل أزيد من ستة عقود من العطاء، كموسيقي مجدد في الوطن العربي، وفنان تشكيلي مهووس بإيقاعات اللون، فضلا عن ممثل جاور في أدواره عمالقة السينما المصرية والمغربية في الزمن الجميل.
بدا الدكالي مثيرا ومحاطا بهالة من الضوء.. يجلس أمام طاولة وُضعت عليها نسخ من كتاب مذكراته المعنونة بـ”شيء من حياتي.. ثلاثية الحب والفن”، بينما حشْد من المعجبين بفنه الأصيل، يقفون أمامه لاقتناص نسخة الجزء الأول من هذه الثلاثية، بتوقيعه المنقوع بحبر وخط مثيرين..
أنيق جدا، يتوشح منديلا مزركشا، يطغى عليه اللونين، الأبيض والبرتقالي الفاتح، فيما منديل آخر، بفسيفساء من الأبيض والأسود يتدلى قليلا من جيب الصدر بسترته الزرقاء الداكنة المائلة إلى السواد.. يداه الرقيقتان، لم تفرطا قط في تلك الخواتم الفضية التي رافقته في سهراته، وبدت مميزة على أصابعه التي سحرت أجيالا من المغاربة والعرب، وهي تعزف على العود ألحانا موسيقية ما تزال خالدة في سجل الغناء الطربي الأصيل.
ونحن هناك، وقبل اطلاعنا على هذه المذكرات، اكتشفنا في الدكالي، الإنسان قبل الفنان.. رجل قريب جدا من الناس، يتحدث بانسيابية وعفوية مع جمهوره، ويدخل معهم في تفاصيل حياته، دون تكلف أو تصنع.. يتحدث إلى هذا حتى يرتوي، ثم ينتقل إلى الحديث مع الآخر.. كان قريبا جدا، بنفس قوة قرب أغانيه إلى قلب جمهوره الواسع.
عُرف عن الموسيقار عبد الوهاب الدكالي أنه ملحن ومطرب، ورسام عزف في بداية مشواره التشكيلي سنة 1987على الريشة وتغنى باللون فأبدع لوحات احتضنتها كبريات المعارض الفنية. كما عُرف عنه، أنه كان من القلائل الذين جمعوا بين الغناء والتمثيل في السينما، ما منحه جماهيرية واسعة في العالم العربي.. حيث شارك في أفلام “الحياة كفاح” و”رمال من ذهب” و”الضوء الأخضر” و”أين تخبئون الشمس” و”أيام شهرزاد الجميلة” و”الخفايا”… لكن وبالرغم مما نعرفه عن الدكالي، إلا أن هناك مساحات واسعة من حياته، ظلت في منأى عن التناول، كطفولته وميله الأول للغناء، وعلاقته بالأسرة وغير ذلك من التفاصيل التي من شأنها أن ترسم عن هذا الموسيقار “بوروفايلا” متكاملا.
يعتبر الدكالي من القلائل الذين ولدوا في أربعينيات القرن الماضي، ويحتفظون بتاريخ ميلاد كامل (اليوم والشهر والسنة). إذ كان غالبية المواليد في زمانه يسجلون بالسنة فقط، لكن الدكالي مسجل بأنه وُلد في 2 يناير 1941 بالعاصمة العلمية للمملكة، فاس، وتحديدا بحومة “عقيبة بن سوال” في المدينة القديمة وفي ذلك قصة. فهو “آخر العنقود” ضمن أسرة كثيرة العدد. حيث جاء ترتيبه، العاشر، في بيت يضم 9 أخوات وإخوة، وكان والده يسجل تاريخ كل طفل من أطفاله بقلم الرصاص على سارية البيت، فيظل التاريخ ثابتا، ولعل ذلك هو ما ساعد على تأريخ صحيح لولادة هذا الطفل الذي سيصبح فيما بعد عميدا للأغنية المغربية.
وبالرغم من ولادته في فاس، إلا أن أصوله تعود إلى منطقة دكالة، فوالده الحاج أحمد، المكنى بـ”الدكالي” كان تاجرا متنقلا، وقد وصفه مطرب “مرسول الحب” بكونه كان كتجار بغداد القدامى. هذا الوالد الذي دفعت به ظروف الحياة للاستقرار في فاس، يتحدر من إحدى قبائل دكالة، وتحديدا من قبيلة العونات، والأمر نفسه بالنسبة لوالدته التي تقتسم مع الوالد هذا الانتماء بما يحمله من قيم التشبث بالأرض والعادات والتقاليد.
وعن طفولته، يحكي الدكالي أنه كان مشاغبا في حومة “عقيبة بن سوال” بفاس، واصفا ذلك بقوله: “في طفولتي كنت شيطانا بعض الشيء”، بحيث كان يتزعم مع أطفال الحي الكثير من الأعمال والمغامرات.
وهؤلاء الأطفال كانوا جمهوره الأول، الذي رأى فيه نباهة الفنان الذي سيصبحه غدا. فذات يوم، وبينما هًم، كما العادة، يخرجون إلى ضواحي فاس، لقطف ثمار أشجار الفواكه من الضيعات، بعيدا عن عيون حراسها، شرع الطفل عبد الوهاب في الغناء، وأخذ يؤدي إحدى ألحان الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب. وما إن انتهى حتى حفَّه أقرانه بالتصفيق والتشجيع، قبل أن يتنبأوا له بمستقبل فني مشرق عالم الغناء، حتى أن بعضهم قال له “شي نهار غادي تولي عبد الوهاب ديالنا”، فاعتبر الدكالي هذا أول تشجيع يتلقاه في حياته.
لكن بعيدا عن هذا الاكتشاف من قبل أصدقائه، سيعرف أهل فاس الشاب عبد الوهاب الدكالي، كممثل أولا، وذلك من خلال فرقة “الكوكب المسرحي” التي مثل معها دورا رئيسيا في مسرحية عُرضت في عدد من الحفلات العمومية.. ولأنها كانت مشحونة بـ”الميساجات” الرافضة للاستعمار الفرنسي وقتذاك، فقد منع البوليس الفرنسي المسرحية، باعتبارها تشكل نوعا من المقاومة، عبر تحريض المغاربة على التصدي للاحتلال الفرنسي.
ولأنه كان ممثلا موهوبا، يقول بعض المهتمين بسريته الفنية، تلقى الدكالي عام 1958 تدريبا في التمثيل، فانضم إلى فرقة المعمورة كممثل مسرحي، وقبلها بعام (1957) شارك في برنامج إذاعي خاص باكتشاف المواهب، مدشنا أولى خطواته في عالم الغناء. وكان أول من احتضنه فنيا في الرباط هو الملحن محمد بن عبد السلام، الذي تكلف عام 1959 بتلحين أول أغنية مسجلة له، وهي “مول الخال” وأيضا أغنية “يا الغادي في الطوموبيل” التي حققت له شهرة واسعة، وهي أيضا تحمل بصمة بن عبد السلام والزجال حمادي التونسي.
وبعد توالي أعماله الفنية، والتي قادته للقيام بسهرات فنية في عدد من المدن الأوربية والأمريكية، قرر الدكالي أن يهاجر إلى مصر التي تضج وقتها بالنجوم، وهو حلم ظل يراوده منذ سنوات، حيث سافر إلى القاهرة عام 1962، واستقر بها طويلا، فكان أن التقى بقمم الموسيقى وأهراماتها وفرض نفسه بينهم، بعدما استغل موهبته في الغناء والتمثيل. حيث شارك سنة 1963 في فيلم “منتهى الفرح” وغنى فيه إلى جانب عمالقة الأغنية العربية: محمد عبد الوهاب الذي فُتِن بصوته، وفريد الأطرش وشادية وصباح وفايزة أحمد والراقصة نجوى فؤاد…، كما شارك في العام نفسه في فيلم “القاهرة في الليل”، فبرز كنجم بحمولة صوتية هائلة إلى جانب الشحرورة صباح والدلوعة شادية ونادية لطفي. ويتذكر عشاق السينما المصرية، كيف قدمه، في الفيلم نفسه، الممثل الكبير فؤاد المهندس، بترحيب خاص قائلا: “الوطن العربي زي ما انتو عارفين، لم يعد بعيدا عن بعضه البعض، والفن كان له، وما يزال، أكبر الأثر في توحيد المشاعر، عشان كدة.. المطرب الأول في المغرب، عبد الوهاب الدكالي، جا مخصوص من بلاده عشان يشترك معانا في أضواء المسرح”، وكانت هذه الكلمة، قد أدخلته، بسرعة إلى قلوب الملايين في الوطن العربي، محفوفا بصفة “المطرب الأول”، فغنى في الفيلم أغنية مطلعها “حكايتي وهيَّ حبي.. ح قولها في كِلمتين. ضحك لي يوم لقاني ابعث لو ضحكنين”. وكانت هذه الأغنية، كما لو أنها قد وطَّنت اسمه، كأول مغربي يفرض اسمه بين الكبار في زمن العربي الجميل.
خلال عام 1965 سيعود الدكالي للمغرب، كبطل انتصر في معركة الوجود أمام عمالقة الطرب الشرقي، فغنى “ما أنا إلا بشر” التي حملته إلى القمة، وهي الأغنية التي أدتها المطربة صباح بصوتها العذب، فأصبحت تتردد وقتها على طرف كل لسان من المحيط إلى الخليج، كما لحن للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ أغنية “حكاية هوى”. وعن هذه الأغنية يقول الدكالي، إن الطيب لعلج كتبها ساعة تناولنا الغذاء نحن الثلاثة، واشتغلت أنا على تلحينها ما بين الثالثة عصرا والثالثة صباحا”.
بعد أغنية ” ما أنا إلا بشر” توالى الإنتاج الغزير لأغاني الدكالي ليقدم حوالي 40 أغنية، تتوزع بين الرومانسية والوطنية والطربية، فغنى “أنا والغربة” و”أنا مخاصماك” و”مرسول الحب” و”العاشقين” و”الليل والنجوم” و”قصة الغرام” و”كتعجبني” و”حبيب الجماهير”… قبل أن تأتي أغنية “كان يا مكان” التي سحرت الملايين، والتي حاز عنها الجائزة الكبرى خلال الدورة الأولى من مهرجان الأغنية المغربية في مدينة المحمدية عام 1985. ثم أطرب “مات خويا يا بويا” و”سوق البشرية” وغيرها من الأغاني التي تختزل كل التحولات التي شهدتها الأغنية المغربية، وأيضا علاقة حب فريدة بين الدكالي الذي ظل مرتبطا بجمهوره، وظل جمهوره مرتبطا به، في ثنائية عنوانها عشق خاص لمبدع مجدد في الموسيقى واللحن.
إنها سيرة موجزة لفنان واكب كل التحولات العميقة التي عرفتها الأغنية المغربية والعربية، وسيرة طرب مغربي أصيل، انصهرت فيه القصيدة الزجلية والعربية باللحن المتجدد والجريء، الذي كسّر فيه الدكالي الكبير كل القواعد، بشكل إبداعي متميز، ليتجاوز حدود المحلي والإقليمي إلى العالمي أو الكوني.
مؤطر:
الجوائز والأوسمة التي حازها عميد الأغنية المغربية:
ـ 1985: الجائزة الكبرى خلال الدورة الأولى من مهرجان الأغنية المغربية في مدينة المحمدية.
ـ 1999: الجائزة الكبرى من المهرجان الدولي للأغنية في القاهرة عن أغنيته “سوق البشرية”.
ـ 1991 رُشح لشخصية العام العربي من قبل هيئة الإذاعة البريطانية في لندن.
ـ 1993 الجائزة الكبرى من مهرجان المغرب الدولي بمراكش في دورته الثانية.
ـ 1996 حصل على لقب أفضل مبدع موسيقي من لجنة تحكيم مهرجان القاهرة الدولي للأغنية.
ـ 2004 حصل على الميدالية الذهبية من الاستحقاق والتفاني الفرنسي.
ـ 2006 حصل الجائزة الفرنسية الكبرى للإنسانية.
ـ 2008 تسلم مفتاحا رمزيا لمدينة فاس في مهرجان للموسيقى العالمية العريقة.
ـ 2013 حصل على وسام المكافأة الوطنية من درجة قائد، وتم تكريمه من قبل الفاتيكان.
ـ 2013 حصل على وسام ملكي (المكافأة الوطنية من درجة قائد) بمناسبة عيد الشباب