حسن عين الحياة
لم يصل رياضي مغربي ولا إفريقي ولا عربي إلى ما وصل إليه وليد الركراكي اليوم من الشهرة، خاصة في عالم كرة القدم.. لقد أضحى اسمه عابرا للقارات، ومثيرا في بورصة التداول بأكبر المنتديات الإخبارية في العالم، وربما هو الآن يُسيل لعاب كبريات الأندية الأوروبية، التي لم تؤمن يوما بأن المدرب الإفريقي والعربي قادر على كسر تلك النمطية التي صاحبته منذ عقود، وأن بإمكانه خلق المستحيل.. ولعل هذه القفزة النوعية التي حققها الركراكي رفقة “كتيبة أسود الأطلس”، ببلوغه إلى المربع الذهبي لكأس العالم (قطر 2022) لم تأتِ من فراغ.. إذ وراءها عمل جبار وإصرار وعزيمة وحب خالص للوطن.
وصفه بعض المحللين بـ”العبقري”، في إشارة على كونه ابتكر طريقة لعب صلبة في عالم الساحرة المستديرة يستحيل كسرها، وآخرون نعتوه بـ”الساحر” الذي يخرج “العجب العجاب” في ميادين كأس العالم في قطر. والبعض الآخر، يرون أنه داهية، يعرف كيف يروض خصومه في الملعب، ثارة بالتنويم، وأخرى بالاندفاع والمباغتة، ثم الصعق الذي يشل الفريق الخصم.
لكن بعيدا عن هذه الأوصاف، إن وليد الركراكي مدرب حكيم ببعد نظر خارق، وهذا ما قالته عدد من الصحف الأوروبية.. فقد تمكن في ظرف وجيز، لم يتجاوز 60 يوما، من تحقيق ما عجز عنه من سبقوه إلى تدريب أسود الأطلس، وفي طليعتهم البوسني وحيد خليلوزيتش الذي لم يتمكن من إيجاد ذاك الخيط الناظم للَّآلئ الفريدة التي كانت بين يديه.. لكن بالنسبة للركراكي الذي تمكن من الجمع بين هذه الجواهر في عقد لؤلؤ واحد، فالأمر لا يحتاج إلى تعقيد.. فقط إلى التواصل السلس وتقريب وجهات النظر بين الناخب الوطني والطاقم التقني واللاعبين.. ثم إلى الثقة في القدرات، و”النيَّة” الخالصة، وبشكل آخر، يحتاج إلى نوع من “المصالحة”.. لأن المهمة وطنية بامتياز، وهي فوق أي اعتبار.
والملاحظ، أن اللاعبين استوعبوا الرسالة، فعاد الهدوء والطمأنينة إلى غرفة الملابس، وعاد معهما المايسترو حكيم زياش، والجناح الصلب نصير مزراوي، والدبابة عبد الرزاق حمد الله، والزئبقي أمين حارث، وهم الرباعي الذهبي الذين أبعدهم خليلوزيتش، بعدما ركب عناده، مستعملا “سوط الوطنية” الأشد إيلاما على النفس قبل الجسد.. لكن، هذا الرباعي، (بعدما أبعدت الإصابة زميلهم حارث)، سيعطي درسا بليغا لوحيد في الوطنية، من خلال الميدان، وحب العلم الوطني، والتفاني في إعلاء اسم المغرب ليصبح الأكثر ترددا في العالم، بعدما استأسدوا إلى جانب زملائهم في بطولة كأس العالم في قطر.
اليوم، أصبح وليد الركراكي أشهر مدرب من القارة السمراء والعالم العربي، تتداول اسمه كبريات الصحف العالمية، وتردده ألسنة أشهر المحللين في استوديوهات التحليل الرياضية في مختلف دول العالم، بعدما أوقف من خلال “تاكتيكه” المحكم المد الكرواتي في دور المجموعات، وقهر دفاعات البلجيك، بهدفين للصابري وبوخلال أبطلا تعويذة “الشياطين الحمر”، قبل أن يُفشِل حماسة “الكنديين” بهدفين مبكرين، لزياش والنصيري احتل معهما المنتخب المغربي صدارة المجموعة السادسة، ومن تَمَّ الصعود إلى الدور الثاني مكررا بذلك إنجاز ميكسيكو 86.
لكن وبالرغم من هذا الإنجاز المبهر، لم تتوقف شراهة وليد الركراكي في هذا المونديال المحفوف بالتضامن والمساندة العربية والإفريقية، حيث أطاح بالإسبان في دور الـ”16 من خلال التصديات الناجحة للحارس العالمي ياسين بونو في ضربات الترجيح. ثم أحبط حلم البرتغال المعززة بأمهر اللاعبين، وفي طليعتهم الأسطورة كريستيانو رونالدو في دور الربع، وذلك من خلال قفزة مثيرة ليوسف النصيرى التي أثمرت هدفا ثمينا، أوصل المنتخب المغربي إلى دور نصف نهائي كأس العالم، كأول بلد إفريقي وعربي يحقق هذا الإنجاز المثير للدهشة.
طفولة وليد الركراكي.. العاشق للكرة منذ صغره
ازداد وليد الركراكي في 23 شتنبر 1975 في بلدية “كورباي إيسون” في الضواحي الجنوبية للعاصمة الفرنسية باريس، وتعود أصوله إلى منطقة أقشور بنواحي شفشاون المميزة بسحرها وجمالها في شمال المغرب.. وقد كان وليد، وفق ما أفصح عنه والده في حديث لوسائل الإعلام، عاشقا لكرة القدم منذ صغره.. ففي سن السادسة، كان الركراكي مرتبطا بشدة بالكرة، يلعب مع أقرانه مباريات مصغرة في حي مونتيكونساي الذي نشأ فيه، وكان وقتها لافتنا للانتباه. لكن بالموازاة مع ذلك، كان متعلقا أكثر بدراسته.. ولعل هذه التوليفة، هي التي جعلت الأب لا يخشى على مصير إبنه الذي حصل بعد سنوات على شهادة الباكالوريا، خاصة في ديار المهجر التي تعيش إكراهات متعلقة بالجوانب الاجتماعية والثقافية.
ولأن وليد برز كنجم للكرة ضمن أقرانه، ضمَّه فريق الحي إلى صفوفه، قبل أن يجر إليه انتباه فريق “راسينغ كلوب دي فرانس” أو ما يُعرف باسم “راسينغ باريس”، حيث لعب له بين عامي 1997 و1999. بعدها انتقل إلى فريق تولوز (1999-2001)، ثم إلى فريق أجاكسيو (2001-2004). قبل أن ينتقل إلى الدوري الإسباني، ليلعب مع فريق “راسينغ سانتاندير” (2004-2006)، ثم ما لبث أن عاد إلى الدوري الفرنسي فلعب لـ” ديجون وغرونوبل ووفلوري ميروجيس”… لكن خلال هذا المسار الحافل، كانت هناك محطة مميزة، ستقود الركراكي إلى المنتخب الوطني لكرة القدم كلاعب بلغ مع أسود الأطلس بقيادة بادو الزاكي نهائي كأس إفريقيا للأمم، التي أقيمت في تونس عام 2004، والتي اكتفى خلالها المنتخب الوطني بالوصافة.
قصة التحاق الركراكي بأسود الأطلس كلاعب ثم مدرب
تعود قصة التحاق وليد الركراكي بالمنتخب الوطني كلاعب، إلى عهد المدرب الفرنسي الراحل هنري ميشيل الذي كان قد وصل بالمغرب إلى المرتبة 10 في تصنيف الفيفا، بعد الظهور المشرف الذي ظهر به الأسود في مونديال فرنسا عام 1998. كان وليد وقتها يلعب في فريق تولوز الفرنسي، وقد برز بقوة ضمن عناصره كجناح أيمن سريع، الأمر الذي جعل مجلة فرنسية تُفرد له مساحة خاصة ضمن صفحاتها.. وقتها حمل وليد هذه المجلة أثناء عودته للمغرب، وككل شاب “مرضي الوالدين”، أراد أن يفرح والديه ويشعرهما بالفخر، ففتح المجلة وعليها صورته كلاعب مغربي متألق في الدوري الفرنسي.
وبحسب والد الراكراكي، كانت هذه المجلة أول مفتاح لابنه للانضمام إلى المنتخب الوطني.. ذلك أنه بعد عودة الابن إلى فرنسا، حمل والده المجلة، وتوجه رفقة بعض أصدقائه من مدينة الفنيدق إلى الدارالبيضاء.. وهناك التقى ببعض المسؤولين عن كرة القدم في البلاد، ومنحهم المجلة، وكله فخر بوليد، علهم يلتفتون إليه، ويضمونه إلى المنتخب الوطني.. بعدها عاد إلى الفنيدق ينتظر رد المسؤولين.. لكنه لم يتلق جوابا في حينها وإن كان متيقنا من المناداة على ابنه.. مرت حوالي 3 أشهر، ليفاجأ الأب بالمدرب هنري ميشيل وهو يتابع الركراكي في إحدى مبارياته مع تلوز في الدوري الفرنسي.. اقتنع المدرب بوليد، وسارع إلى ضمه للنخبة الوطنية لكنه لم يلعب أية مباراة رسمية تحت قيادته.
وفي عام 1999، سيدشن الركراكي أول مباراة رسمية له مع المنتخب الوطني، وكانت ضد المنتخب المصري المعزز بالآلاف من جماهيره.. وعن هذا الحدث، كشف اللاعب المغربي السابق الطاهر لخلج عن أول ظهور للركراكي مع الأسود بقيادة المدرب البرتغالي أومبيرتو كويليو. وبحسب لخلج، كان اللاعب لحسن أبرامي قد أصيب خلال التداريب، فعوضه وليد الركراكي… “وكان الملعب في القاهرة ممتلئا عن آخره بما يفوق 120 ألفا من الجماهير المصرية”، يقول لخلج، ويضيف أنه وبعد الإحماء، “دخلنا إلى غرفة تغيير الملابس، وأثار انتباهي وليد وهو يرتعش، ولم أشاهد في حياتي لاعبا في ذلك الموقف، حيث اعتقدت أنه يمر من وعكة صحية في تلك اللحظة، فهرولت إليه وسألته ما به، فأجابني وهو يرتعش ووجهه مصفر”، وكان جواب الركراكي الذي يريد أن يبصم على ظهور جيد في أول مقابلة له مع الأسود: “أنا خائف، وهذه أول مقابلة مع المنتخب الوطني، ولم ألعب قط أمام هذا الجمهور الغفير”. فطمأنه لخلج، وقال له بأنه سيكون إلى جانبه في الملعب، وكانت المباراة قد انتهت بالتعادل (0-0).
بعدها واصل الركراكي مغامراته مع الأسود فلعب معهم 45 دولية، سجل خلالها هدفا واحدا، وكانت آخر مشاركة له مع المنتخب الوطني في 20 يونيو 2009، أمام المنتخب الطوغولي، في المباراة التي جرت في ملعب الأمير مولاي عبد الله في الرباط، وانتهت بالتعادل السلبي.
الركراكي المدرب.. مسار حافل بالإنجازات
بعد انتهاء مشواره كلاعب، عاد الركراكي إلى فرنسا، ودرس التدريب، وحاز على دبلوم ثمين، فتح له الباب للالتحاق في شتنبر 2012 كمدرب مساعد، بطاقم الناخب الوطني رشيد الطاوسي الذي كان مدربا للأسود، لكن سرعان ما غادر الركراكي هذا المنصب بعد إقالة الطاوسي الذي فشل وقتها في تأهيل المنتخب الوطني لنهائيات كأس العالم (البرازيل 2014). وبعد أشهر قليلة تولى الركراكي تدريب فريق الفتح الرباطي، (2014-2019) وحاز معه على كأس العرش ودرع البطولة في 2016، قبل أن يتم اختياره كأفضل مدرب في المغرب في العام نفسه. ولأنه نجح في مهامه، حاول الركراكي أن يختبر نفسه في بطولة أخرى، فحلق إلى قطر لتدريب نادي الدحيل، ففاز معه بلقب البطولة عام 2020. لكن في عشت 2021، عاد الركراكي للبطولة الاحترافية المغربية، فوقَّع مع فريق الوداد البيضاوي، وفاز معه بلقب عصبة الأبطال الأفريقية، فضلا عن لقب البطولة. وقد كانت هذه الإنجازات، التي تحقق خلال مساحة زمنية ضيقة، كافية لأن تلفت أنظار فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، كي يسند إليه تدريب الفريق الوطني، خلفا للبوسني وحيد خليلوزيتش، وذلك قبل انطلاق مونديال قطر بأقل من شهرين فقط.
نبوءة الركراكي تتحقق في نهائي كأس العالم
اليوم، لا حديث في العالم الرياضي إلا عن أسود الأطلس، وما حققوه رفقة وليد الركراكي في بطولة كأس العالم في قطر.. الكل يحاول أن يلامس فلسفته في التدريب، وقوته في الضبط، وليونته في التسيير، وهدوءه في عز الضغط، وفوق ذلك، بعد نظره ودقته في إحكام الخطة.
لقد سحر وليد كل القلوب بطريقته في التواصل، وبسلاسته في إيصال أفكاره بما أوتي من شطارة في إتقان اللغات.. ففضلا عن العربية، يتحدث وليد الفرنسية والإسبانية والإنجليزية بسهولة، ولعل ذلك هو ما جعله يتواصل مع لاعبيه دون حاجب ولا وسيط، قبل التواصل مع الصحافة التي استطاع أن يكسبها إلى صفه..
والآن وبعد بلوغه لنصف نهائي كأس العالم، إلى جانب فرنسا وكرواتيا والأرجنتين، أصبح وليد الركراكي، أول مدرب إفريقي وعربي يحقق هذا الإنجاز، وإن كان قد حققه كلاعب، ببلوغه نهائي كأس العالم، من خلال الخيال السينمائي.. حيث سبق له أن شارك في فيلم “انهض يا مغرب” للسيناريست والمخرجة نرجس النجار، وكان الفيلم الذي يظهر فيه الركراكي، إسما في الجينيريك، وصورة في “الكادر”، قد تنبأ بوصول المنتخب المغربي لنهائي كأس العالم، وبإخراجه للجماهير المغربية والعربية إلى الشوارع.. إنها نبوءة مدرب يصر على إعمال “النية” مادامت هي أبلغ من العمل.