عباس فراق هذا الإسم السينمائي و المسرحي و الادبي الذي راكم سنوات من العطاء في مختلف مجالات الإبداع. يفتح قلبه و دفتر يومياته و ذاكرته لقراء المنعطف من خلال كتابه “زمن السعوب” الذي هو وجه آخر لسيرة ذاتية تقاطع فيها العام و الخاص، حتى إختلطت لحظاته، فحياة المبدع ليست ملكا له بل هي ملك للأخرين الشركاء في الحياة التي من أجلها أبدع و أعطى عصارة جهده الفكري.
إذا تشرع جريدة المنعطف في نشر الجزء الأول من السيرة الذاتية للمناضل والكاتب والسينمائي عباس فراق ابراهيم والتي ركز في جزئها الاول على مرحلة “خربة زمران” كمحطة أولى في سيرته الشاملة ” زمن الشعوب ”
ويتناول الكتاب من خلال مسار حياة المؤلف التحولات التي عرفها المجتمع المغربي خلال خمسينيات القرن الماضي وأهم المحطات التي شكلتها الأحداث الاجتماعية والسياسية التي شغلت الرأي العام واحتلت الذاكرة الجماعية للشعب المغربي.
تعيش البشرية أزمنة مختلفة :
زمن الساسة والطغاة …
زمن المهرجين التافهين والمنتفعين…
زمن البسطاء والكادحين وهو …زمن الشعوب!…
خربة زمران
عندما استيقظت صباح ذالك اليوم لاحظت وجود شخص غريب في غرفتنا. كان للرجل لحية كثيفة بيضاء , يرتدي جلبابا أبيضا وعلى رأسه عمامة شرقاوية… رأيته متكئا على ركبتيه يلف أخي الصغير محمد في رداء أبيض وهو ما أدهشني , فلم أفهم ما كان يجري … نظرت إلى أمي الواقفة قرب الباب وهي تمسح دموعها في صمت…و لم أبرح مكاني إلا عندما هم الرجل الملتحي بالخروج من الغرفة وهو يحمل أخي محمدا في هيضورة متوجها نحو باب الخربة… عندها نهضت بسرعة وأمسكت بتلابيب جبة والدتي قائلا:
ـ كولي ليه يرد ليا خويا !
خرج الرجل وأنا أردد طلبي باكيا فانحنت علي والدتي وضمتني إليها ثم انفجرت في نواح مؤلم مبحوح…دخلت الجارات يقدمن التعازي , وامتلأت الغرفة الصغيرة بكاء فتوقفت عن البكاء أمام اهتمامهن بنا.غير أنني لم أكن أدري هل كان نحيبهن مواساة لوالدتي لفقد ابنها الصغير أم أن وفاة هذا الأخير ذكرتهن برحيل قريب عزيز…
كان بكاؤهن غير طبيعي وكان يتخلله صمت بين الفينة والأخرى يتبادلن خلاله حوارا لا علاقة له بمأساتنا…وهكذا سرعان ما تحولت جلسة العزاء إلى مزيج من الحديث عن الموت والموتى و شيء من النميمة…
كان الرجال غائبون بحكم عملهم اليومي , وكان جارنا عباس أخ الضريرتين الحاضر الوحيد في خربة زمران صباح ذاك اليوم الحزين.فقد جلس القرفصاء قرب باب غرفتنا في صمت وكأنه في حالة تأمل عميق حول ألغاز الحياة وجانبها العبثي…
أما باقي الرجال فهم غائبون منذ الصباح الباكر, إنهم تعودوا على الالتحاق بأشغالهم مباشرة بعد صلاة الفجر. فغالبا لا يبقى في الخربة طيلة النهار سوى النساء والأطفال, الوقت صيف وكنا في أوج موسم الحصاد وهي فترة يتوفر فيها الشغل للكادحين في ضيعات المعمرين و كبار الفلاحين في أحواز مدينة مراكش. ولكون جذور والدي زراعية فقد كان يعمل حصادا خلال هذا الموسم مما جعل غيابه يطول أحيانا نظرا لبعد مكان اشتغاله كما كان يتجنب المبالغة في مصاريف التنقل ليتمكن من ادخار الأجرة اليومية التي يتقاضاها و يبعث لنا من حين لآخر بعض النقود مع أحد زملائه الحصادة العائدين والمارين على حي سيدي أيوب … كانت والدتي تكثر في السؤال عن أحوال والدي, فكان المرسول يجيب دائما بما يرضيها ويجعلها تطمئن على زوجها الكادح الغائب…هكذا مات أخي محمد وعمره لا يتجاوز السنتين في غياب والدي …
عندما عاد والدي إلى الخربة مع نهاية موسم الحصاد لاحظ غياب ابنه الأصغر بمجرد نظرة خاطفة داخل غرفتنا الصغيرة, فرفع نظره نحو والدتي وكأنه يسألها فانفجرت بكاء.صمت والدي هنيهة وكأنه هضم الفاجعة وحسم الموقف بقوله:
ـ الله يرحمو ربي اللي عطاه وربي للي داه!
ثم مرر يده على رأسي قائلا:
ـ غدا إنشاء الله نمشيو لسوق ونشري ليك حوايج جداد…
فأزال ترازا من على رأسه ووضع قفته أرضا وقد ظهرت منها يد المنجل وأدخل يده في جيبه واخرج منه ريالا فأعطاني إياه :
ـ هاك, سير شري حلوى من عند محماد وسير تلعب مع الدراري في الدرب…
أخذت منه الريال فارحا وخرجت أهرول نحو دكان محماد البقال . وأنا في طريقي إلى باب الخربة لاحظت أن الجارات كن يطللن من وراء الستور نحو غرفتنا فقد كانت عودة والدي خبرا حظي باهتمام الجيران الذين كانوا يعيشون في تآزر ومودة وحسن جوار منقطعي النظير. وباختصار شديد كانوا يعرفون ـ على بساطتهم ـ كيف يتعايشون داخل فضاء الخربة و يتشاركون أفراحهم وأحزانهم رغم اختلاف منظورهم لأمور الحياة…
أطلق أهل الدرب على هذا المنزل القديم لقب خربة زمران لقدمه و لحالته المتآكلة.وكنا من بين العائلات الثمانية التي تسكنه… كانت الغرف متشابهة في حالتها وحجمها .أما السكان فكانوا من نفس المستوى الاجتماعي فجلهم نازحون من البادية. وكان عدد أفراد العائلات القاطنة بالخربة يتراوح مابين شخصين إلى خمسة والجميع شركاء في الفناء والبئر والمرحاض الوحيد الذي كان استعماله مخصصا للنساء والأطفال. أما الرجال فقلما يدخلونه حيث كانوا يستعملون مرحاض الحي المجاور لمسجد ضريح سيدي أيوب.وكباقي الجيران كنا نستنير ليلا بقنديل به فتيل مطلى بزيت الزيتون..