عبد اللطيف بوجملة
فرضية لورنس ستون المؤرخ الإنجليزي الشهير مفزعة لكل الأنظمة التوليتارية وقبل ديمقراطية، والتي تعتمد في إعادة إنتاج بنيتها الاجتماعية السياسية تبئيس الفعل الثقافي وصيانة ثقافة سائدة نمطية ونكوصية مهادنة وغير مشاكسة. هذه الفرضية تقوم، في ما تقوم عليه، على استجلاء المشترك بين الثورات الكبرى والتي تلتقي، وإن اختلفت سياقاتها التاريخية وتشكيلاتها الاجتماعية، في نقطة فريدة من نوعها: ساكنة تتقن القراءة والكتابة بنسبة النصف أو أكثر. الغريب في هذه الدراسات التاريخية التي انصبت على أكبر الثورات التي شهدها التاريخ (الثورات الانجليزية والفرنسية والروسية) تؤكد معطى سوسيولوجي بالغ الأهمية وهو أن هذه الثورات لبست عباءة الذكورة أي أن النسبة المذكورة هي ضمن الساكنة من الذكور!. فهل يعني أن الثورات الكبرى لم تكن ممكنة إلا من خلال نسبة من الساكنة الذكور متعلمة تقرأ وتكتب وبإتقان؟ وهل هذه الفرضية صادقة بالنسبة للثورات اللاحقة ولا سيما المعاصرة في آسيا وأمريكا اللاتينية؟. لا جواب على ذلك، بالنظر إلى أن المعطيات قد تغيرت جذريا بين قرون من الزمن وبين معطيات القرن العشرين والتي تميزت بولادة وانتشار مؤسسة جديدة قديمة هي المدرسة العمومية والتي تعلم وبالتالي تثقف الجميع ذكورا وإناثا وسواهما. لكن الثابت، في فرضية ستون، هي العلاقة القوية بين النسب المرتفعة للساكنة المتعلمة وبين طبيعة وبنية السلطة السياسية والاجتماعية. لذلك يرتبط الانعتاق من نظام ما قبل ديمقراطي ومن الاستبداد باتجاه إرساء نظام ديمقراطي فعلي بنسبة المتعلمين وبجودة التعلمات أي اتقان القراءة والكتابة والحساب. بتعبير آخر تحتاج الديمقراطية وبشكل حاسم إلى مدرسة عمومية تعلم. لكن عندما نسائل المجهودات التي بذلها المغرب من أجل تعميم التمدرس وهذا منذ ثلاثة عقود خلت، والنسب المعلنة والتي وصلت مع نهاية العقد الأخير إلى 98٪ بالنسبة الفئات العمرية 6/11 أي التعليم الأساسي الاجباري سواء داخل المدينة أو في القرية، فإنه علينا ألا نغفل معطيات أساسية حاسمة أولها أن هذا التعميم يتم هدره بالنسبة للفئات العمرية الأعلى لاسيما من 12 إلى 17 سنة وبنسب تتجاوز 60٪ في المعدل ثم تطرح أيضا معضلة اكتساب التعلمات وجودتها بدليل النتائج المخيبة والترتيب الصادم الذي يحتله المغرب وأطفاله (أطفال المدرسة العمومية) في التقويمات التي باشرتها اليونسكو وكذا اختبارات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE). فلا يعني التعميم أي شيء دون أن يحقق المطلوب منه كميا ونوعيا. تمة أيضا معضلات لم يتم تقويمها لحدود الساعة: المعضلات الثقافية لما قبل التعريب ولما بعده، مما يطرح السؤال على تأثير التعريب في تغيير خصائص النخب المغربية، ولاسيما أصوليتها ونفورها من قيم التنوير والديمقراطية والاختلاف والتقدم والحداثة بالمقارنة مع ما قبل التعريب.. ومع كل “النجاحات” التي حققتها المدرسة المغربية كميا، بارتفاع نسبة تعميم التعليم وتقليص الفوارق بين الجنسين، وأخذا بعين الاعتبار الإخفاقات الجوهرية والمتمثلة في هدر تعميم التعليم وضعف الاكتساب وتهاوي جودة التعلمات (الاكتساب قنطرة مرور الثقافة إلى الاقتصاد وخلق الثروات)، وعدم الالتفات بالجدية المطلوبة إلى معضلة معايير تكوين الأستاذ والمعلم، وعدم الالتفات إلى المعرفة العلمية بالطفل، وأخذا بعين الاعتبار العلاقات بين الأجيال ولاسيما داخل الأسرة النووية التي لاتكف عن الاتساع والانتشار وانتقال علاقاتها بين الأباء والأبناء إلى علاقة معرفة/ معرفة، مع كامل التحفظ بالنظر إلى قيمة الإشهاد التعليمي، فإن الرهان كبير بين الخضوع إلى تلبية اشتراطات اقتصادية ظرفية (يد عاملة مؤهلة، وانفتاح المدرسة والجامعة على محيطها الاقتصادي) وبين التأسيس لمشروع مجتمعي مبني على حق المشاركة الواسعة للمواطنين. ولاشك أن للثقافة وللصراع بين أجيال التعريب ونخبه وبين نخب ماقبل التعريب، دور تلعبه لإرساء هذا المشروع المجتمعي الديمقراطي، لاسيما إن وفق المغرب في اختياراته اللغوية للتعليم على أساس مزج خلاق ومبدع: تدريس العلوم بلغاتها والارتقاء بالعربية ورفع وزر الأثقال التي تكبدتها مع التعريب، ولاسيما تعريب العلوم في التعليم المدرسي دون المضي به إلى التعليم الجامعي واكتساب الأمازيغية لمكانتها في المنظومتين التعليمية والإعلامية تفعيلا للدستور الجديد..