– عبد اللطيف بوجملة
…………………………………………………………………………………
-I تغيير العقلية التي تحكم المنظومة التربوية
منذ تأسيسها سنة 1997، دأبت جبهة القوى الديمقراطية، في مختلف محاطتها التنظيمية، مؤتمرات وجموع للجن الوطنية والمجالس الوطنية، وفي مختلف وثائقها الأساسية على تبويىء المنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي مكانا، ضمن أولوياتها الأساسية. المبدأ الناظم لهذا الاهتمام المركزي لجبهة القوى الديمقراطية كما تطرحه وثيقة “من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية”. هو أن هذه المنظومة تعكس أولا وأخيرا استثمار مجتمعيا في العنصر البشري ثروة الثروات الوطنية الاستراتيجية الحاسمة في الدخول إلى التاريخ المعاصر بتبدلاته وتغيراته العميقة والسريعة وبتحدياته والتي يفرضها واقع العولمة والقدرة على التنافس من أجل الوجود، اعتمادا على الكفاءة والمعرفة والخلق.. أي منظومة للتربية وللتكوين والبحث العلمي لاتضع نصب أعينها النهوض بوظائف اكتساب المعرفة والمعرفة العلمية والتقنية والخبرة والكفاءة وامتلاكها، لفائدة المستهدفين منها: أي عنصرها البشري الثنائي الضلع (متعلم / معلم) (متكون / مكون) (مكون/ مكون المكون) (باحث / مؤطر)، لايمكن أن تضلع بأدوارها المجتمعية في أبعادها الجوهرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والسياسية والبيئية، وبالتالي لن تشكل مدخلا لمرقاة التقدم المأمول.. وإن كان الناظم، في هذه الوثيقة التركيبية، هو وضوح منطلقاتها الجوهرية ووضوح الوظيفة التي ينبغي أن تضطلع بها المدرسة العمومية، وبالتالي منظومة التربية والتكوين، فإن إصلاح هذه الأخيرة يعتبر بالنسبة لجبهة القوى الديمقراطية شأنا مجتمعيا يستوجب تدبيرا تشاركيا، وانخراطا الجميع في دينامية الإصلاح في مناخ تسوده روح المواطنة والمسؤولية”.. روح المواطنة، تقتضي في ما تقضتيه، عدم الانزلاق السياسوي والايديولوجي الذي تضخم، ليس من محطة تاريخية إلى أخرى من إصلاح المنظومة التربوية، بل من حكومة إلى أخرى، إذ كل وافد جديد على تدبير هذه المنظومة يلغي ماسبق، ويجتهد في تصيد معاطب ومهاوي سياسة سابقه، كما أكد على ذلك الخطاب الملكي في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان. ومن باب هذه الروح المواطنة ومن باب المسؤولية فإن الوثيقة التركيبية “من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية”، تعتبر أن الخطاب الملكي بمناسبة ثورة الملك والشعب يزيد من “تعزيز الإجماع الوطني حول الإقرار بالعجز عن إيجاد منظومة للتربية والتكوين في مستوى طموح وانتظارات المغاربة” وتقدم تشخيصا لواقع هذه المنظومة المأزوم.. إذ ما تزال المدرسة المغربية تنزع إلى الفوارق بدل تقليصها، كما أن نتائج مختلف برامج الإصلاح التي تعاقبت ما تزال بعيدة عن إنجاز مهمة تكوين مواطن اليوم المؤهل والمستعد للمشاركة الفعالة في تنمية بلده وتفشل في ترسيخ الغايات المجتمعية الكبرى: المواطنة الحرة، روح المسؤولية، دعم التنمية الثقافية. ترسيخ البناء الديمقراطي وضمان التماسك الاجتماعي وصيانة الهوية الوطنية المتعددة الأبعاد. مستندة في ذلك إلى جملة من الدراسات والمؤشرات كمؤشر التنمية البشرية والتقرير العالمي لليونسكو لرصد التعليم للجميع ولمنطق مسؤول في التحليل لا يقتصر فقط على مناحي الإخفاق بل يشير أيضا إلى المكتسبات والتطور الذي حصل على مستوى المؤشرات الكمية (نسب التمدرس والهدر المدرسي، نسب النجاح الاشهادي) والتي بذلت بشأنها جهود مهمة لكن دون مراعاة جودة التعليم. لذلك أيضا تعتبر الوثيقة التركيبية أن أي أفق للإصلاح ينبغي أن يهتم، إلى جانب التلقين والتعلم، الاهتمام بتعلم “الخبرة واكتساب فن الحياة، وبالتالي فإن أي خطاب حول النهوض بالتعليم يتطلب تغيير فلسفة التعليم ووسائل التلقين، كما يستدعي عدم الاكتفاء بتغيير البرامج والمناهج الدراسية، وإنما البدء في تغيير العقلية التي تحكم النظام التكويني والتربوي”. ولعمري أن تغيير هذه العقلية يمر أولا وأخيرا بمنطق العقلنة أي علاج العلل بأسبابها القريبة وبإرساء ثقافة المساءلة والتقويم قوام “الإدارة القائمة على النتائج” والقلب النابض لمفهوم قيادة المنظومة التربوية الذي استنسخناه بصورية قاتلة.
-II-الشأن العام التعليمي شأن ديمقراطي
ما من شك أن اللقاءات التشاورية والتي فتحتها وزارة التربية الوطنية وكما تتبعنا ذلك منذ مدة أمام الفاعلين المباشرين وغير المباشرين (الجسم الأساتذي، التأطير والإدارة) وشركاء المدرسة المغربية لا سيما السلطات المحلية (وبعض المصالح الخارجية) والمنتخبين والمجتمع المدني، وعاودها المجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي، لهو سبيل محمود يرسي ثقافة الإنصات والاستماع لتحديد الحاجيات التي ينبغي تلبيتها من لدن هذه المؤسسة المجتمعية البالغة الأهمية، وتحديد انتظارات المجتمع منها، وكذا السعي لتلبيتها. وعلى أهميتها، فإن هذه المشاورات الموسعة، لن تف بكل المطلوب والمأمول لانقاذ المدرسة والمصالحة معها، لأننا نعتقد أن هذه المدرسة تحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى الكثير من المعرفة وليس الرأي، المعرفة وليس الجهل، والمعرفة وليس الإيديولوجيا. نعتقد أيضا أن هذه المشاورات التي فتحتها وزارة التربية الوطنية تتأطر وفق اسئلة وإن ظهرت كونها تشكل معضلات مؤرقة داخل المنظومة التربوية، فإنها مع ذلك لا تشكل جوهر الإختلال الذي متى تمم تقييمه، بالمناهج العلمية المطلوبة والملائمة والمعمول بها في التجارب التربوية الدولية، متى يسرت الحلول بالنسبة لباقي المعضلات التي طرحتها الورقة المؤطرة للنقاش. إذ يظهر أن هذا المسعى التشاوري بقي مسكونا بسؤال المردودية الذي قام عليه المخطط الاستعجالي الذي بقي هو الآخر مسكونا بالنتائج عوض توفير الشروط الجوهرية لتحقيق هذه النتائج بالرغم من بريق مشاريعه وصعوبة تنفيذها وهزالة حصيلة إنجازاتها الكيفية. في كل الورقة المؤطرة للنقاش، ما هو أساسي في تقييم المنظومة يصير تفصيلا من تفاصيل الاشكالية التربوية بالمغرب، ويتماهى الكائن المختل والمشوه والمعطل في أداء وظيفته الأساسية، مع تخوم المأمول العصي والباعث على الحيرة. نعني بالتحديد استنساخ المفهوم الجديد الذي تبنته جميع الإصلاحات العميقة التي باشرتها، مثلا، دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وهو مفهوم “قيادة المنظومة التربوية” والذي ينهض على تقويم فعلي وشامل للنظام التربوي في مكوناته الأساسية وهي:
1- تقويم الأساتذة
2- تقويم السياسات التربوية 3
– تقويم تسيير المنظومة التربوية
4- تقويم الحصائل الوطنية
5- التقويم المقارن مع التجارب الدولية.
وهي جميعها مكونات قد لا تفيد فيها الاستشارة والرأي وإنما المعرفة والمقاربة العلمية والمؤسسية والخبرة الوطنية والدولية ، وهي مسؤولية على كاهل السلطات العمومية والمؤسسات الدستورية والسلطات المنتخبة، بما أن الشأن العام التعليمي والتربوي هو شأن ديمقراطي. وهو الأمر الذي لم يتم لحدود الساعة. وهو ما شددت عليه الوثيقة التركيبية لجبهة القوى الديمقراطية “من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية”، المدرسة الوطنية التي “لازالت في منأى في الدخول في أجرأة مستويات التفعيل العملي والميداني لاستهداف الغايات المجتمعية الكبرى الرامية إلى توسيع قيم المواطنة الحرة، وتنمية روح المسؤولية ودعم التنمية الثقافية والعمل في سياق البناء الديمقراطي على ضمان التماسك الاجتماعي وصيانة الهوية الوطنية المتعددة الأبعاد”.
-III-مطلوب المدرسة الوطنية
“إن الهدف من إصلاح المنظومة الوطنية للتربية والتكوين، في منظور جبهة القوى الديمقراطية، هو الوصول إلى التلميذ باعتباره محور العملية التربوية والمستهدف الأساسي من الإصلاح، عبر النفاذ إلى جوهر إشكاليات المنظومة التربوية، وتثمين العنصر البشري، من خلال إعادة الاعتبار لنساء رجال التعليم وتحفيزهم ماديا ومعنويا.” (وثيقة من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية). لا تعوز المغرب الارادة الحقيقية والمعلنة لاصلاح التعليم، على الأقل، منذ مجيء العهد الجديد. باعتلاء محمد السادس العرش، دشن المغرب أكبر أوراش التشارك في تدبير المسألة التعليمية في المغرب. كم هائل من اللقاءات والاجتماعات ذات الطابع السياسي والنقابي والمهني والاقتصادي والمدني والتشريعي، وكم هائل من الزيارات للاطلاع على التجارب وكم هائل من ” الصحائف” والمقاربات والتشخيصات والتقييمات والآراء، تم اختزالها وبلورتها، ولأول مرة، في ميثاق وطني للتربية والتكوين، وتم تجسيده على المستوى السياسي الحكومي باطلاق مفهوم ” عشرية الاصلاح “، المفهوم الفلندي الأصل،( الذي توجه رأسا إلى العنصر البشري، الاستاذ والتلميذ أولا وأخيرا بل ودون سواه). إن العودة إلى التجربة الفلندية كفيلة بتقديم الكثير من الدروس والعبر. لأكثر من 20 سنة من الإصلاح، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (بالضبط انطلاقا من سنة 1949) دخلت فلاندا تجربة إصلاح عميقة لمنظومتها التربوية إنطلاقا من تشخيصات حول حدود مردودية المدرسة الفلندية وسبل نهوضها لتلبية حاجيات المجتمع الفلندي وانتظارات الفلنديين منها، فصرفت أموال طائلة على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في استفاذة الطفل الفلندي من تعليم أساسي والقطع مع التعليم النخبوي، فهيأت كل الشروط الموضوعية من تعميم للتمدرس وتحسين شروط العرض التربوي وباعادة النظر في البرامج الدراسية والكتب المدرسية وفي مشكل الهدر لا سيما مشكلة انقطاع 3 تلاميذ على أربعة دون اتمام التعليم الأساسي، بل وفي سائر المعضلات التربوية كالحكامة التربوية وتدبير الموارد البشرية ولغة التدريس ونظام التقويمات والتكوين، كما فعلنا تقريبا في المغرب منذ صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين وإلى اليوم. ومع ذلك بقيت المعضلات الأساسية تراوح مكانها إن لم تتعمق، وبرزت بالأساس في نتائج الحصائل التربوية الهزيلة كما ونوعا. ما الذي يجعل من ضعف الحصائل واقعا لا يرتفع بالرغم من المجهودات المبذولة والإرادة المعلنة لإصلاح المنظومة التربوية الفلندية؟ هكذا تساءل الفلنديون في بدايات الستينات من القرن الماضي، إلى أن اكتشفوا ما غاب عن كل هذه المجهودات الحقيقية: لقد غاب تقويم المكونات الأساسية لهذه المنظومة: الأستاذ والتلميذ معا. وكان هذا الإجراء حاسما في مستقبل المنظومة التربوية الفلندية: لقد وقف الفلنديون، ولأول مرة، على حجم الكارثة: إذ أن 3 أرباع وأكثر من الجسم الأساتذي غير مؤهل للاضطلاع بوظيفة تعليم الطفل الفلندي! فخرج مفهوم العشرية عبر تعديل جوهري ودقيق في النصوص القانونية التي نظمت إصلاح المنظومة، بإصدار نص قانوني يعيد النظر في المعايير التي ينبغي أن تتوفر في بروڤيل المعلم والأستاذ، وفرضوا على من يريد أن يمارس هذه المهنة “الجسيمة” أن يتوفر على التكوين العلمي البيداغوجي الملائم، عبر فرض إشهاد الماستر لولوج الجامعة البيداغوجية، أي فتح هذه المهنة الحساسة على سبل البحث العلمي والمعرفة البيداغوجية ومستجداتها. وفرضوا عشرية لتطبيق هذا القانون فظهر، ولأول مرة في التاريخ المعاصر، مفهوم العشرية الذي اختار الفلنديون أن يتوجه رأسا إلى العنصر البشري، أساسا الأستاذ… ومع الموسم الدراسي 1973-1972 تم تخريج أول أفواج الجامعة البيداغوجية وبدأ تطبيق انتشار هذه الأفواج المؤهلة تدريجيا، أي باختيار جهة نموذجية للتطبيق، لتيسير مهام التقويم ومع انتهاء موسم 1977 - 1978 انتهى الفلنديون، وبشكل جذري، من معضلة الأستاذ والمعلم غير المؤهلين، وإلى الأبد، ولأول مرة في تاريخ البشرية ظهر مفهوم جديد لقيادة المنظومة التربوية: المعلم الدكتور والخبير المنتج، ليس فحسب، في القيام بمهامه التعليمية والعلمية، وإنما أيضا المجتمعية، فباتت خدمته مطلوبة من جميع المؤسسات الوطنية والقطاعات المنتجة، بل و المؤسسات الدولبة والأممية أيضا. أي ارتقاء بالمعلم والأستاذ في سلم خلق الثروة المادية واللامادية( زخم من البحوث العلمية الميدانية في العلوم الإنسانية والاجتماعية و النفسية والبيداغوجية ). والعبرة بالنتائج، فبعد عشرين سنة على هذا الإصلاح بدأت النتائج بالظهور: لأول مرة تحقق فلندا تعليما عادلا ومتكافئا لكل أطفالها وذا جودة عالية. ومع سنة 2003 وإلى اليوم يحتل التلميذ الفلندي قائمة اختيارات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المعروفة اختصارا بـ (PISA) .. .(Programe pour le suivi des aquis des élèves)
-IV- أسباب النجاح
تقترح الوثيقة التركيبية “من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية” جملة من التدابير والإجراءات لرد الاعتبار للمدرسة العمومية في التعليم الأساسي والثانوي أهمها:
-ضرورة بلوغ التعميم بالمدرسة العمومية بنسبة 100٪ وضمان الاحتفاظ بالتلاميذ حتى نهاية التمدرس الإلزامي (14-6 سنة).
-معالجة الأسباب السوسيواقتصادية لعدم الالتحاق بالمدرسة أو الانقطاع عنها وكذا تطوير مقاربة النوع (الإناث، ذوو الاحتياجات الخاصة، الجانحون).
- تكريس سياسة اللامركزية واللاتمركز بإعطاء مضمون جهوي لكل إصلاح تربوي.
- تطوير جودة الحياة المدرسية في مختلف مكوناتها (الزمنية والفاعلية والنشاط المتنوع، والأمن، وفتحها على محيطها المتعدد…).
- تكريس مجانية التعليم الأساسي مع تطوير استثمارات الدولة في قطاع التعليم، وتشجيع الجماعات المحلية على صيانة المرافق المدرسية.
- إصلاح هياكل تسيير التربية الوطنية.
- تطوير التكوين المستمر لفائدة المدرسين والإداريين والمؤطرين.
- تدبير حيوي لاشكالية اللغات. - تعزيز التوجه نحو التخصصات العلمية والتقنية.
-محاربة الأمية.
جميع هذه التدابير والأهداف التي ينبغي أن تحققها المدرسة المغربية لايمكن أن تتم دون الالتفات إلى التجارب الدولية الناجحة للإطلاع على أسباب هذا النجاح. وإن كانت من توصية في هذا الباب فهي أن تطلع وزارة التربية الوطنية، وعن قرب، على النموذج الفلندي الواعد وأسباب نجاحه على مستوى دول منتظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وتمكين حكامة المنظومة مركزيا وجهويا من مؤسسات التقويم والتي هي في حاجة ماسة إليها: مديرية مركزية للتقويم والاستشراف والإنجاز، تكون مهمتها الأساسية، بل واليومية، إنجاز دراسات تقويم الممارسات البيداغوجية وتفعيل وظيفة المفتشين والمؤطرين التربويين، وفرق البحث التربوي التقويمي. الاستعانة بالخبرات الوطنية والدولية المختصة في التقويم. خلق معهد وطني متخصص في المسائل البيداغوجية: المعهد الوطني للبحث البيداغوجي..
- خلق لجنة وطنية لتقويم المؤسسات العمومية ذات الطابع العلمي والثقافي والمهني، تضلع بانجاز تقارير تقويمية على المؤسسات التربوية (الجامعية) وتقارير على البرامج الدراسية والمقاربات البيداغوجية. بدون خلق هذه المؤسسات وهذه اللجن وهذه الخبرة ذات الطابع الوطني، لا يمكن لسلطة المعلم أن تنهض من رمادها وأن تقوم ليس فحسب بوظيفتها التقليدية، أي وظيفة أن تعلم وتكون، بل بالوظائف الجديدة والممارسات التربوية البيداغوجية المستحدثة والتي تقطع كليا مع بيداغوجيا الأهداف والتي لم تستطع المنظومة التربوية الوطنية، لحدود الساعة، الحسم معها، أساسا بسبب غياب بروفيل واضح لوظيفة المعلم والأستاذ، وبالتالي غياب سلطته المجتمعية وضعه الاعتباري.
-V- تعريب مفلس ، والعودة إلى ما قبل التعريب إفلاس للمستقبل
من ضمن الاجراءات الجوهرية التي تقترحها جبهة القوى الديمقراطية في وثيقتها التركيبية “من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية” هي ” تدبير حيوي لاشكالية اللغات، بما يضمن تحديث تدريس اللغة العربية والنهوض بتدريس اللغة الأمازيغية والتحكم في اللغات الأجنبية”. وعلينا أن نعترف أنه ولحدود اليوم لا وجود لهذا التدبير الحيوي وإنما التخبط. تجربة التعريب فشلت وولدت كائنا لغويا مسخا، بسبب تعريب المواد العلمية أساسا، بحيث حملنا التعريب، وهو في مرحلة النطفة، ما لا يحتمل، وبدون تهييء وتراكم، فتهاوى الجوار اللغوي للعربية مما أدى إلى تهاوي هذه الأخيرة. التعدد والانفتاح اللغويين للمغاربة كميسم لهويتهم واللذان صمدا كل هذا السير التاريخي المديد الذي يعد بالقرون أريد له أن يرتد على عقبه لأسباب سياسية وربما أيضا طبقية، ونزل قدر التعريب وما يزال ثقيلا وحكم على مصير أجيال وما يزال بالضياع. وما يبرر هذه الإرادة السياسية هي مفارقات التعريب التي مست ما قبل الجامعي برمته، بينما استمرت الجامعة والمدارس والمعاهد العليا المحدودة الولوج تعتمد لغة النظام القديم أي الفرنسية. وها نحن اليوم نحصد النتائج المتردية وبل القاتلة للاختيارات اللغوية العشوائية للمنظومة التربوية، إذ صار التلميذ والطالب المغربيين، كما لم يكن قبل التعريب بقدر امتلاكه خاصية الفرنسية بالقدر ذاته يمتلك ويتمثل قواعد لغته، قصرا وعطلا على تمثل أي لغة للتدريس سواء العربية أو الفرنسية، واستعاضت حياة القسم على لغات الدرس، بالدارجة المغربية، وبات الأستاذ يدرس بها، لا يدرس بها فحسب، وفي جميع المستويات، بل أيضا يدرس بها العلوم واللغات بما في ذلك اللغة العربية والفرنسية وهلم جرا… طبيعي لأنه لا يمكن أن يعلم التلاميذ بلغات لا يعرفونها. بفضل هذه التخريجة السياسية والطبقية التي استعملت أداة التعريب، تم طرد اللغة الفرنسية من حياة القسم، وهي اللغة التي كانت تحمل أوزار التعليم العلمي عوضا عن العربية، وكانت اللغة العربية قوية بهذا الجوار اللغوي، ثم ما فتئت أن طردت العربية والتعريب بدورهما من حياة الفصل الدراسي لفائدة الدارجة، الدليل على ذلك أن الاعلام العمومي متمثلا في القناة الرابعة هو نفسه كان يقدم حلقات الدعم التربوي في العلوم (الرياضيات والفيزياء وغيرها لتلامذة الباكالوريا بالدارجة المغربية!) لقد أصبحت مسألة لغة التدريس راهنا محط مساءلة مجتمعية وحضارية، كانت مؤسسية أو سياسية أو شعبية، بل وتتجاوز ذلك كمساءلة لأسباب وجودنا في التاريخ وفي العصر. وهو استشكال معقد يفترض فتح النقاش العلمي و العمومي الجاد والمسؤول إزاءه انطلاقا من جملة من الأسئلة: هل حان الوقت باتجاه إلغاء التعريب؟. ثم إذا كان هذا هو السبيل الوحيد المتاح، فهل سنعود لما كان عليه الوضع قبل التعريب أي باعتماد اللغة الفرنسية ولا سيما في تدريس العلوم، وما هي الكلفة الاجتماعية والسياسية والبشرية والمالية لهذه العودة؟ أم باعتماد اختيارات لغوية أخرى، لا سيما ونحن نلاحظ، في فرنسا مثلا، كيف أن المنتوج العلمي والتقني الدقيقين، والأنشطة والتظاهرات العلمية، وبل والتكوين العلمي المحض، يتم باللغة الإنجليزية؟ ثم ما موقع اللغات الوطنية في هذه المساءلة، لا سيما ومن المفروض أن نباشر في إعمال الدستور المغربي بمأسسة اللغة الأمازيغية والنهوض باللغة العربية كلغة للتدريس؟. وسيكون، من دون شك، تكرارخطإ إعاضة التعريب بالعودة إلى ما قبله،خطأ مضاعفا وقاتلا، لأنه لا يمكن تعويض تجربة مفلسة بتجربة تحبل بالافلاس المسبق أمام المستقبل، أي معاودة دخول متاهة لا انفكاك عنها، بتحويل ثروة المغرب إلى فئران تجارب والمدرسة العمومية إلى مختبرات طبقية باختيارات تبعية لا مستقبل فيها.
-VI-الأمازيغية، نموذج اللغة الأم واللغة الرسمية
نحتاج الكثير من المعرفة لمقاربة الأوضاع اللغوية بالمدرسة المغربية. أقول المعرفة وليس الرأي، المعرفة وليس الجهل، والمعرفة وليس المصلحة الطبقية. نحتاج أيضا، وفي إطار آليات الانتقال الديمقراطي، المصالحة مع المدرسة المغربية ولغات المدرسة المغربية على مستويين: الإنصاف وفضيلة الاعتراف بحقيقة الاجهاز على مهمة المدرسة، في الاضطلاع بدور التعليم أي أن تعلم، على الأقل في المستوى الذي كانت عليه قبل مجيء التعريب وتحويل ثروة المغرب إلى فئران تجارب فاشلة لا تنتهي، وذلك لتجفيف مصادر التوتر والغضب والمشاكسة السياسية والوعي التنويري الذي كانت تضطلع به هذه المدرسة، وتنميط منتوجها البشري والنكوص به. وإن كانت من إرادة سياسية، فهي هذه الإرادة المبنية على المعرفة وعلى المصالحة الفعلية وليس المزايدات السياسوية الانقسامية مثيل مزايدة التعريب ومزايدة الفركوفونية وأخيرا مزايدة اللغة الأم أي الدارجة. إنه، ولحدود الساعة، لم نقم بتقويم الانتقال من سطوة اللغة الفرنسية على المدرسة المغربية إلى مرحلة تعريبها والتي تم إرساؤها بشكل نهائي في إطار الميثاق الوطني للتربية والتعليم، وكل النتائج والآثار التي أفرزتها هذه التجربة والتي انطبعت بمنطق المفارقة: تعريب التعليم الأساسي والثانوي بدون المضي به صوب الجامعة المغربية، فقط لأن الجسم الأساتذي غير مستعد لذلك أو يرفضه!. إن الإنصاف اللغوي للمدرسة المغربية، يمر مبدئيا، عبر قناة اللغة الأم وليس اللغات الرسمية، أي الانتقال باللغة الأم من اللسان إلى اللغة، أي صيرورة تاريخية للتأسيس والتقعيد والتراكم لهذا الرأسمال اللغوي وفي قلبه الرأسمال اللغوي التربوي، وهو ما يتطلب عقودا وأجيال. والعودة إلى التاريخ كفيلة بالتأكيد على الامتداد الزمني لهذا الانتقال: العربية ذاتها، واللغات الهندأوروبية وانفصالها عن جذرها اللاتيني قد استغرق قرونا لإرسائه.. السؤال الحاسم هل نحن مستعدون لبدء هذا الانتقال؟ وهل يكفي الحفاظ على الكائن اللغوي والأساسي للمنظومة التربوية (التعريب) أم نستبد له، بما أن “التعريب” ذاته هو لغة ثانية وليس اللغة الأم؟وفي استبداله هل نعود إلى لغة ما قبل التعريب أم نستبدلها بغيرها وبشكل خاص الانجليزية؟ لحسن حظ المغاربة أن ورشا كبيرا وحاسما قد بدأ وهو المتعلق بترسيم الأمازيغية، باعتبارها لغة أم ولغة رسمية وإن تلكأت حكومة بنكيران في مباشرته لأسباب ايديولوجية ظاهرة ومعروفة، فضلا على ما يروج بالغائها من القسم نهائيا مع مجيء وزير التربية الوطنية الحالي، فإذا ذهب المغرب بعيدا في هذا الورش التأسيسي المفتوح، ولاسيما إن تم العمل على تمتين الجوار اللغوي للأمازيغية كلغة لحياة القسم، بلغة ثانية من عيار الانجليزية (مثلا)، فإن ذلك سيفيد إفادات تاريخية كبرى للإجابة من سؤال اللغة في المنظومة التربوية، تنهي اللغط والمزايدة على أسس معرفية وعلمية وسياسية لاتخطىء مع التاريخ.. نعتقد جازمين أن حصيلة التعريب ومفارقاته تبين بالملموس التردي بل التهاوي المدوي للمنظومة التربوية الوطنية وفشلها في صناعة جودة التعلمات الأساسية مقارنة مع ماقبلها بالرغم من نخبويته، وهو ما يتطلب في رأينا التحلي بالواقعية القائمة على النتائج التي تجنب من ارتكاب الأخطاء القاتلة التي ترهن مستقبل أجيال بل مصير أمة برمته، مع إعمال الخلق بتبني التجارب النموذجية المحدودة أساسا النمذوج الاكلوفوني والإسباني، في تعليم العلوم بالنسبة للنموذج الأول، كما هو معمول به على الصعيد الدولي، وتقويمها، قبل تعميمها اعتمادا على نجاعتها، لأنه في النهاية النجاعة هي القياس والمقياس وهي المطلوبة والمأمولة في أي نظام تربوي عادل.. وما يؤكد أن هذا المطلب يدخل في باب الطوبى، شأنه في ذلك شأن التكوين العلمي والبيداغوجي للمعلم والاستاذ، هو الخبط والعشوائية التي يتم التعامل بها مع تجربة الباكالوريا الدولية، والتي يتم تطبيقها، بدون إعادة تكوين الاساتذة، وبدون تكوين مستمر، وباعتماد أساتذة دون كفاءة، وفي غياب سند منهجي وفي غياب المقررات الدراسية الملائمة، سوي اعتماد المجهوذ الذاتي للأستاذ في الترجمة وكما اتفق، أو بلجوء الأساتذة إلى زاد مقررات بيداغوجيا الأهداف التليدة والتي تم تجاوزها بتبني الميثاق الوطني للتربية والتكوين. لذلك يبدو أن المصالحة الفعلية مع المدرسة ما تزال بعيدة المنال!
-VII- صحة المدرسة من طبيبها وطبها؟!
الهدر، هذا الغول الذي تجتمع فيه كل مظاهر أزمة التعليم بالمغرب، بل ومعضلات منظومة التربية والتكوين وحكامتها. لعمري إن الهدر يتجاوز كونه مجرد مؤشر إحصائي عن المردودية المدرسية تؤثت بها الاحصائيات الرسمية ومنتديات النقاشات الرسمية وغير الرسمية توسما لجرأة منفوصة تعترف بالمرض ولا تعالجه، كما يتجاوز كونه مجرد ظاهرة يتخلى فيها جزء كبير من ثروة المغرب أطفاله وشبابه) عن التعليم النظامي (أي يتسرب منه طوعا أو قصرا أو مكرها (كما في الجامعة)) إذ علينا ألا نغفل أن الذي لم يتسرب من هذا النظام هو ذاته يعيش الهدر، بالنظر إلى أننا مجمعون في كلمة واحدة، بكون المنظومة لم تحقق الأهداف المتوخاة منها بالنظر إلى النتائج المحققة والهزيلة على مستوى الفعل التعليمي وجودته، ولم نعمل قط على تقليص هذه الاختلالات أساسا عدم قيام المنظومة بمهامها الأساسية والأولوية: أن تعلم، وبالتالي أن يكون للمتعلم الحافز على أن يتعلم ذاتيا، أن تعلم: الكتابة والقراءة والفهم وأن تعلم الحساب، بالتحصيل المطلوب وبالتقويم المشهود. لأن تحقيق ذلك رهين بشروط موضوعية. إن الهدر هو في الواقع ظاهرة، مركبة بأسباب قريبة جدا، وبوجوه متعددة بآثار مباشرة وغير مباشرة، حاضرة وتحكم المستقبل، قصيرة المدى وطويلة المدى، مديدة بالرغم من سرعاتها. هدر للزمن هدر للمال، هدر للبشر ولكل إمكانيات التنمية المتاحة للمجتمع. الهدر هو من وجه آخر مقياس لنجاعة السياسات التربوية من عدمها، إذ لا تختزل فيه فقط الفوارق السلبية بين الأهداف والنتائج، بل أيضا كل مكونات هذه السياسات، بدءا باختيارات “اللغة” ومرورا بتكوين المعلم و”الإنسان” ومعاييره والمقررات والمناهج، وغيرها (الإدارة التربوية، الخريطة المدرسية العرض التربوي، جمعيات (أولياء التلاميذ، محيط المدرسة وسواها)). لا يمكن أن ينتج التكوين الحالي الموجه للمعلم والأستاذ إلا إرساء وتعميم الهدر، بالنظر إلى أن هذا التكوين يفتقد إلى أسس التربية الجوهرية: المعرفة العلمية والبيداغوجية حول الطفل والشباب والمراهقة، أي آنيات البحث العلمي في علوم النفس وعلوم الاجتماع، القادرة على فهم الهدر ليس فحسب كتسرب (انقطاع)، بل كبنية معقدة، ينبغي الإمساك بأسبابها وتصريف الحلول والإجراءات الملائمة لتقليصها. الغياب مثلا، كسبب من أسباب الهدر، ينم أساسا عن غياب الحافز الذاتي لدى المتعلم لأسباب تنتمي إلى البنية النفسية كعدم التكيف وعدم التمثل وعدم الفهم والخوف وضعف قابلية النظام، ومرورا بسيرورات التعلم داخل حياة القسم مع المعلم والأستاذ، وخارج القسم محيط المدرسة والأسر. وهي جميعها مهام تحتاج إلى قيادة تربوية مؤهلة مهنيا وعلميا ومفتوحة على البحث العلمي والبيداغوجي ممارسة يومية، ومفتوحة على مستجدات التربية. ما نحتاجه، وما نحتاجه منظومة التربية والتكوين في المغرب، هو بالفعل عنصر بشري مؤهل وقادرعلى تشخيص أمراض القسم، أطباء تربويون، لايشخصون فحسب، بل قادرون أيضا على علاج الأمراض التي تظهر في سيرورات تعليمهم أي سيرورات ممارستهم لوظيفتهم، طلبا للصحة: صحة أداء مهامهم وصحة التحصيل والتعليم والتعلم. والأكيد أن الطبيب هو في حاجة إلى طب ببنياته التحتية وبمراجعه العلمية وتكويناته الأساسية وبتكويناته المستمرة القارة والمتحركة، وخطط تقويمه وتدبيره وإدارته (أهدافا ووسائل ورصداً وتتبعاً). في عهود سحيقة ترك لنا أفلاطون حكمة مأثورة تعلو باب أكاديميته: “من لم يكن رياضيا فلا يدخلن علينا”، ولعمري أن أفلاطون كان محقا في هذه الحكمة الصامتة: كيف تجرؤون، وكيف تجرؤ السياسات التربوية المختلفة وإلى اليوم بتصدير بفلول من المعلمين والأساتذة الذين لايملكون معرفة علمية وعلم إنسانية بالطفل بالرغم من أن هذه المعرفة على الطريق كما يقول الجاحظ؟ لذلك لا أرى الهدر، في انقطاع التلميذ ذاتيا عن المدرسة، وإنما الهدر الحقيقي هو في سياسة لاتنتج، ولن تنتج إلى الهدر سواء في اختياراتها اللغوية، أو في اختياراتها التكوينية، لقيادة هذه المدرسة وهذه المنظومة: لا أحد في مكانه، ولا أحد تقريبا يحوز التكوين الواجب للقسم، كما أن الذين لفظتهم المدرسة ما بين 12 و17 سنة، وبنسب منتفخة، هم سيان بالمقارنة مع الذين استمروا بهدر هائل في التحصيل وضعف في الكفايات الأساسية، سرعان ما تلفظهم الجامعة! أما المتفوقون على قلتهم، فلا حظ إلا لنزر يسير للولوج الجامعي المحدود لا بتعدى الربع. والأرقام دالة وفاضحة!