ادريس رابح
لا شك أن النضال الأمازيغي، منذ بروز أولى معالمه، يسير في خطين متوازين، وفق سيرورة تدمج بين المقاربة النضالية الميدانية، التي تنشط في بلورتها، فعاليات المجتمع المدني وجمعيات وإطارات أمازيغية متعددة، وبين مقاربة تقوم على البحث العلمي في اللسانيات والسوسيولسانيات وعلم اللهجات diactologieوالأنثروبولوجيا الأمازيغية والأدب والثقافة الأمازيغية والتأليف في الشعر والرواية والأمثال والإبداع والتنظير في شتى دروب المعرفة. فقد ظل هذان الخطان متوازيين ومتداخلين ومتكاملين، فإذا كان النضال الميداني يسعى إلى توفير وعاء قانوني وتعبيد أرضية سياسية تستوعب المطالب الأمازيغية وتوليها الاهتمام المستحق وتبوئ الأمازيغية، هوية وثقافة ولغة وتاريخا، مكانتها الطبيعية باعتبارها الأصل والمنطلق لكل خطوة تروم المصالحة الحقيقية للمغرب مع ذاته الهوياتية، فإن البحث العلمي والالتزام الفكري الموجه نحو النهوض بشتى دروب الأمازيغية، اللغة والأدب والتاريخ…، يوفر من جهته، الضمانة الأساسية لاستمرار مقومات خطاب أمازيغي متكامل الجوانب وله من التبرير والبرهنة ما يجعله قادر على تفنيد الأطروحات المتهالكة التي تحفل بها الساحة الفكرية والثقافية والوطنية.
وبما أن القضايا ذات الأبعاد السياسية والهوياتية والتاريخية لا تقوم لها قائمة إلا بالارتهان إلى الالتزام في الخطاب والموضوعية في الطرح والعلمية في البحث والتقصي، وهي شروط شكلت، إلى حد بعيد، الخلفيات العلمية للمناضلين والباحثين والمفكرين والموجهة لإنتاجاتهم في الميدان الأمازيغي، مما أعطى الخطاب الأمازيغي تلك الانسيابية والليونة في الاستمرار وتجاوز أحلك الفترات السوداء في التاريخ المغربي، في الوقت الذي تميزت التوجهات الأخرى بالنكوصية وبالتراجع نتيجة الاندفاعية وعدم موازاتها بالأبحاث الرزينة وبمأسسة الخلفية الفكرية والعلمية. فالبحث العلمي يشكل أهم المرتكزات التي ضمنت للقضية الأمازيغية الاستمرار في الواجهة.
إن البحث العلمي في الميدان الأمازيغي وخاصة في اللسانيات، قد تمت مأسسة أولى نواته منذ أواسط القرن التاسع عاشر بصدور الكتاب المعبد للبحث اللساني الأمازيغي ”ouvrage venture de paradis” سنة 1844، ثم مع بداية القرن العشرين، شكل الفرع اللغوي القبايلي و فرع أهاﯕﯕار في بلاد الطوارق موضوع لعملين قيمين، اعتبرا أولى الأعمال الكبيرة في ”علم المعجميات”، ليس فقط لغناهما المفاهيمي ولحمولتهما الدلالية، بل أيضا لدقة التعاريف والتعاليق والتأويلات المرافقة للكلمات التي وردت في المعجمين، ويتعلق الأمر بالمعجم الطوارقي_الفرنسي لصاحبه Charle Faucould(1951) ، والمعجم القبايلي_الفرنسي ل Jean_Marie dallet 1982، وتوالت بعد ذلك أبحاث وأعمال ودراسات مختلفة المواضيع والاهتمامات، غير أن المعجميات ودراسة اللغة في بنياتها قد أخذتا حصة الأسد في الجهود المبذولة سواء من طرف البعثات الممهدة للاستعمار أو من طرف الأبحاث العسكرية التي كانت تصطبغ بعلم الإثنوغرافيا الأمازيغية أو من طرف الأمازيغ أنفسهم الذين ولجوا ميدان البحث الأمازيغي بعد تنامي الوعي الهوياتي والثقافي وبعد تجدر معالم سياسة إقصائية وتمييزية للأنظمة الشمال_افريقية تجاه المكون الأمازيغي.
وقد اتسمت الأبحاث بالتنوع وذلك بتنوع المجالات التي كانت موضوعا لها. فتمت دراسة بنيات اللغة الأمازيغية التركيبية والصرفية والفونولوجية والفونوتيكية والمعجمية والحرف، وتم اعتماد في ذلك على أحدث النظريات اللسانية مما مكن الأمازيغية تجنب بعض التناقضات التي تحتويها لغات تم إخضاعها لمقتضيات الدرس النحوي التقليدي.
وبما أن هاجس توحيد اللغة الأمازيغية كان يراود فعاليات الحركة الأمازيغية منذ البداية، فقد برزت بعض الكتابات التي أخذت على عاتقها تأكيد إمكانية التوحيد بدل اللهجنة، وهو نفس التصور الذي سار على نهجه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. لم يكن موضوع التوحيد بما في ذلك أشكال التهيئة اللسانية أو المعيرة وسيروراته يحتل مركز اهتمامات الباحثين الأمازيغ وحتى الأجانب منهم، اللهم بعض الإشارات قد يلتقطها الباحث في مقالات أو دراسات نادرة، فقد تطرق سالم شاكر للموضوع في مقالة له تحت عنوان ”اللهجة” dialecte 1995، كما نجد أن أولى الإشارات إلى الموضوع في مؤلف venture de paradis، حيث اعتبر أن فرعي تاشلحيت وتاقبايليت ينتميان إلى نفس اللغة الأم، وهي نظرية ذاتها تبناها Lionel Galand 1985 وAndré Basset 1929، وغيرها من الكتابات التي كانت تسير في اتجاه تكريس فكرة وكيفية التوحيد. بعد تأسيس إيركام واختيار ”توحيد الأمازيغية” عن طريق تهيئتها باعتماد المقاربة المعيارية، بدت إلى السطح كتابات تحاول التنظير للمشروع، وقد حاول من خلالها الباحثون المشاركون في معيرة الأمازيغية تسليط الضوء على شكل التهيئة اللغوية المعتمدة ومقارنتها بتجارب عدة دول أخرى سبقت المغرب إلى النهوض بلغاتها الأصلية.
ويتبين من خلال دراسة لمواضيع الأبحاث التي تناولت الأمازيغية إلى حدود اليوم أنها تنقسم من خلال اهتماماتها إلى صنفين:
_ صنف يدرس اللغة الأمازيغية في ذاتها، ويهتم ببنياتها التركيبية والصرفية والفونولوجيا والمعجمية…ويحتكر أغلب اهتمامات الباحثين والدارسين.
_ صنف من الدراسات ذو طابع سوسيولساني، يمحص أشكال توحيد اللغة الأمازيغية وأنماط التهيئة اللسانية. هذا الصنف لم يلقى الاهتمام المستحق، ولم تعبد أرضية نظرية كافية لشرح الحيثيات والآليات حتى يكون المتتبعين والعامة على بينة من الأوراش المفتوحة في مجال التهيئة اللسانية ويتم بذلك القطع مع الشائعات والمغالطات التي تروج من طرف أعداء الأمازيغية.
على العموم، تبقى هذه الصنوف مهمة وأساسية بالنهوض بالأمازيغية لذاتها وفي والوظائف التي يجب أن تؤديها، لكنها غير كافية، وتبقى غير ذي أهمية ما لم يتم التفكير في السبل الناجعة لإنجاح ما ”يسميه اللسانيون تثبيت المعايير اللسانية”، وهذه الخطوة تتطلب التسلح بالدراسات والأبحاث التي لم يلتف إليها الباحث الأمازيغي بعد على أهميتها الكبرى، والتوجه نحو الاستفادة كذلك من تجارب عالمية ناجحة في الميدان.
يتم الحديث كثيرا عن مفهوم”تثبيت المعيار”عندما يتعلق الأمر باللغة المكتوبة باعتبارها نسق من القواعد متحكم في ديناميتها وفي استعمالاتها الوظيفية، ثم يمتد تأثيره(تثبيت المعيار)إلى التداول الشفهي للناطقين، ولا يجب أن يفهم من ذلك أن القواعد المعيارية الأمازيغية قد تمت صياغتها بمعزل عن المتداول في الواقع اللغوي المعاش، فهذا أمر وارد بالنسبة للغات التي تم اعتماد مقاربات تقليدانية(النحو التقليدي)من أجل تهيئتها، حيث يتم عادة الانطلاق من النصوص التراثية المكتوبة لبناء منظومة القواعد اللغوية(تكريس ازدواجية اللغة)، بينما عولجت هذه الإشكالية من خلال تهيئة اللغة الأمازيغية اعتمادا على ما راكمته الدراسات الميدانية اللسانية الوصفية والسانكرونية، من جهة، ومن خلال التقعيد التدريجي في تدريس اللغة في المدرسة المغربية، من جهة أخرى، إذ تُبقي المقاربة المعتمدة على الصلات الحميمية والوجدانية التي ينسجها الطفل مع لغة الأسرة، ثم يتم الانفتاح تدريجيا على الفروع الأخرى مع مرور السنوات الدراسية.
ثم إن الغاية النهائية ”لتثبيت المعيار”في الممارسة الكتابية هو تحقيق استقراره واكتسابه لشرعية التداول بفضل استعماله المستمر والواسع، وتعيش اللغات، ذات تقليد عريق في الكتابة، نفس الصيرورة عندما يتعلق الأمر ببعض المفاهيم المقترضة أو التي تم تحديثها(néologisme )أو تم توسيع مجالها الدلالي، بحيث يكون استعمالها غريبا في البداية، لكن مع مرور الوقت واعتياد سماعها تكتسب هذه المفاهيم شرعية التداول والتوظيف(نأخذ مثال المفاهيم التالية و التي تحيل إلى ترجمة en direct بالفرنسية و live بالانجليزية إلى اللغة العربية:”مباشرة”و ””و ” بث حي”، فالأولى(مباشرة )مستعملة بكثرة في شمال إفريقيا بينما تستعمل الثانية(على الهواء)والثالثة(بث حي) بكثرة في الشرق العربي، وهذه المفردات لازالت تتنازع شرعية التداول بسبب غياب مؤسسة موحدة راعية تحسم في الاختلاف، ولن يتأتى تحقيق مرحلة استقرار المعيار واكتسابه شرعية التداول إلا بتوحيد مصدر الكلمات، أي بوجود مؤسسة موحدة، ثم بتوحيد قناة ترويج المعيار(المدرسة،….)،ثم بوجود محتضن يُقبِل على نشره(القبول الاجتماعي).
إن من الأولويات الملحة اليوم على الباحثين في اللسانيات والسوسيولسانية الأمازيغية، المكوث على دراسة آليات تثبيت المعايير اللسانية الأمازيغية بشكل يحقق العدالة اللسانية بين مختلف الفروع التحققات المحلية وذلك من خلال:
_ تقنين قنوات ترويج المفاهيم والمفردات والعبارات الأمازيغية وتكوين الأطر وتمكينهم من خلفية نظرية قادرة على جعلهم ينزعون عن التقوقع في لهجة معينة على حساب الفروع الأخرى، وأذكر على سبيل المثال الإعلام.
_ الاهتمام أكثر بالترجمة الصحيحة وتوحيدها حتى يتسنى تثبيت المعايير اللسانية في وجدان المستقبل وحتى نتجنب ما يمكن تسميته بالفوضى المفاهيمية.
_ إصدار دلائل التعامل مع اللغة الأمازيغية في الإعلام وفي المدرسة وفي المجالات التي ستلجها الأمازيغية مستقبلا.
_ تكوين لجن تسهر على تحقيق العدالة اللسانية في تثبيت المعايير اللسانية الأمازيغية.
في غياب الرعاية الرسمية للغة الأمازيغية وسعيها الحثيث لإفشال كل محاولة للنهوض بها، تنبع ضرورة أخذ الفاعل الأمازيغي المبادرة في تأهيل لغته والبحث عن كل السبل المساعدة على توحيد اللغة الأمازيغية وإنجاح انتقالها إلى مصاف اللغات المكتوبة.