بكثير من الارتباط بالتاريخ المجيد و العريق ، و بكثير من الاعتداد بمغرب راهن، مغرب ليس كمغرب الأمس ، خلد المغاربة الذكرى الـ69 لعيد الاستقلال المجيد، والتي تشكل الحدث المؤسس الأبرز للمغرب المستقل، حيث خاض الشعب المغربي ، بقيادة البطل الفذ الراحل محمد الخامس ، كفاحا مستميتا و مكلفا في سبيل حرية الوطن واستقلاله ووحدته.
و ارتبطت هذه الذكرى الغالية بذكرى أخرى مهدت إليها، و هي انتفاضة 20 غشت 1953 الخالدة ، حيث انتفض المغاربة قاطبة بينما اختارت فرنسا الاستعمارية و الامبريالية النار و الحديد و السجون و المحاكمات الصورية و النفي، و امتدت يدها الطويلة و الغاشمة إلى رمز السيادة الوطنية ووحدة المغاربة لنفيه وأسرته الملكية الشريفة بهدف واحد هو إخماد جذوة الكفاح الوطني و عزل الملك عن شعبه، و لم تفلح فرنسا، و عاد السلطان مظفرا و متلاحما مع شعبه اللذين وقفا صامدين مضحيان بالغالي والنفيس في سبيل عزة وكرامة الوطن، وصون سيادته وهويته وعودة الشرعية والمشروعية بعودة الملك الشرعي مظفرا منتصرا حاملا لواء الحرية والاستقلال .
كما ارتبطت هذه المحطة المؤسسة للمغرب الدولة الأمة بأمجاد وروائع المقاومة المغربية في مواجهة الاحتلال الأجنبي بكافة جهات الوطن، ومن ذلك، معركة الهري بالأطلس المتوسط ، ومعركة أنوال بالريف ، ومعركة بوغافر بورزازات، ومعركة جبل بادو بالرشيدية ، وسواها من الملاحم والمعارك البطولية نظير العمل السياسي الذي ظهرت أولى تجلياته في مناهضة ما سمي بالظهير البربري الذي كان من أهدافه شق الصف الوطني والتفريق بين أبناء الشعب المغربي الواحد لزرع بذور التمييز والنعرة القبلية والطائفية، مشيرا إلى تقديم سلسلة من المطالب الإصلاحية ومنها برنامج الإصلاح الوطني، واستمرار التعبئة الوطنية وإشاعة الوعي الوطني والتربية على القيم الدينية والوطنية ونشر التعليم الحر الأصيل وتنوير الرأي العام الوطني وأوسع فئات الشعب المغربي وشرائحه الاجتماعية بالحقوق المشروعة وبعدالة المطالب الوطنية، و التي توجت بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال و التي جسدت وضوح الرؤيا والأهداف وعمق وقوة إرادة التحرير لدى العرش والشعب .
كما لا يمكن أن يحيي المغاربة هذه الذكرى دون استذكار زيارة الوحدة التاريخية التي قام بها جلالة المغفور له محمد الخامس لمدينة طنجة حيث ألقى خطابه التاريخي الذي حدد فيه مهام المرحلة الجديدة للنضال الوطني، مؤكدا رحمه الله جهارا على مطالبة المغرب باستقلاله ووحدته الوطنية.
و هو ما أدى إلى احتدام الصراع بين القصر الملكي وسلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية التي وظفت كل أساليب التضييق على رمز الوحدة المغربية والسيادة الوطنية، محاولة الفصل بين الملك وشعبه وطلائع الحركة الوطنية والتحريرية، دون أن تحقق الإقامة العامة أهدافها.
وأمام التحام العرش والشعب والمواقف البطولية لجلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، الذي ظل ثابتا في مواجهة مخططات الإقامة العامة للحماية الفرنسية، لم تجد السلطات الاستعمارية من اختيار لها سوى الاعتداء على رمز الأمة وضامن وحدتها ونفيه هو والعائلة الملكية ، متوهمة بأنها بذلك ستقضي على روح وشعلة الوطنية والمقاومة، لكن المقاومة المغربية تصاعدت وتيرتها واشتد أوارها لتبادل ملكها حبا بحب وتضحية بتضحية، ووفاء بوفاء، مثمنة عاليا الموقف الشهم لبطل التحرير والاستقلال الذي آثر المنفى على التنازل بأي حال من الأحوال عن العرش أو على التراجع عن قناعاته واختياراته في السيادة الوطنية وفي صون عزة وكرامة الشعب المغربي.
وفي حمأة هذه الظروف العصيبة، اندلعت أعمال المقاومة والفداء التي وضعت كهدف أساسي لها عودة الملك الشرعي وأسرته الكريمة من المنفى إلى أرض الوطن وإعلان الاستقلال. وتأججت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية وأعمال المقاومة السرية والفدائية، وتكللت مسيرة الكفاح الوطني بانطلاق عمليات جيش التحرير بشمال البلاد.
وبفضل هذه الثورة المباركة والعارمة، لم يكن من خيار للإدارة الاستعمارية سوى الرضوخ لإرادة العرش والشعب، فتحقق النصر المبين، وعاد الملك المجاهد وأسرته الشريفة من المنفى إلى أرض الوطن، لتعم أفراح العودة وأجواء الاستقلال سائر ربوع وأرجاء الوطن، وتبدأ معركة الجهاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي لبناء وإعلاء صروح المغرب الحر المستقل وتحقيق وحدته الترابية.
وتواصلت مسيرة التحرير واستكمال الاستقلال الوطني باسترجاع طرفاية وسيدي افني ، لتتوج هذه الملحمة البطولية بتحرير ما تبقى من الأجزاء المغتصبة من الصحراء المغربية بفضل التحام العرش والشعب وحنكة وحكمة مبدع المسيرة الخضراء المظفرة جلالة المغفور له الحسن الثاني، بتنظيم المسيرة الخضراء التي تعتبر نهجا حكيما وأسلوبا حضاريا في النضال السلمي لاسترجاع الحق المسلوب، والتي حققت الهدف المأمول منها بجلاء آخر جندي أجنبي عن الصحراء المغربية واسترجاع إقليم وادي الذهب.
ولأننا امة تعتد بتاريخها العريق و لا تفرط فيه، فإننا أيضا امة مشرعة على المستقبل، و ما أنجزه أسلافنا لحاضرنا و مستقبلنا نواصله بكثير من الالتحام بين العرش و الشعب و كل قواه الحية لنبني صيرورة جديدة عنوانها الأبرز مغرب واحد من طنجة إلى الكويرة و بكثير من الواقعية، التي يبني عليها المغرب الجديد، و هو لاشك مغرب ليس هو مغرب الأمس، وقد صار، بفضل رؤية الملك محمد السادس و دبلوماسيته الشاملة ، قطبا أساسيا في المنطقة، وفاعلا أساسيا في المنتظم الدولي، وبفضل الإصلاحات التي يرعاها الملك و التي وان تقدم مصالح كبيرة لشركائها، فهي الآن مطلوبة من العديد من القوى، وهي ذاتها الواقعية التي تبني عليها دول إفريقيا.
لقد أفل زمن النفوذ الخالص و النفوذ الاستعماري الحيوي، فان أراد شركاء المغرب و شركاء إفريقيا شراكة ناجعة و مستدامة، فان المطلوب منهم، و ليس المأمول، أن ينتبهوا إلى التوجه العام للمغرب ولإفريقيا المستقلين، والذي بات يقوم على تعددية الأطراف، وعلى الاستقلال في الاختيارات والشراكات كنموذج إفريقي لا يحتاج عونا من احد، بل يحتاج إلى شراكة حقيقية وشاملة مناطها ومدارها فلسفة رابح رابح في المصالح و في التاريخ و المستقبل أيضا.