للقاص عبد السلام الجباري . المنعطف24
صدرت الأضمومة عن دار النشر السليكي إخوان عام 2015 في 148 صفحة موزعة على خمسة وثلاثين نصاً قصصيا، إذ تعتبر إضافة هامة إلى المنجز القصصي المغربي في تنوعه واختلاف مشاربه.
وسأحاول في هذا التقديم المبسط أن أتناول نصوص هذه المجموعة من خلال التعرف إلى إشكالية الأنا والآخر وتجلياتها النصية لأنها تشكل الخيط الناظم لهذه المجموعة.
إذا كان الآخر هو المختلف في الجنس والانتماء الديني والفكري انطلاقا من مبدإ المغايرة، فإن بعض قصص “وداعا شوبنهاور” تناولت هذه الإشكالية من منطلق المحاورة، وتم تحديد الآخر فـي الأوربي من خلال مد جسور الحوار مع شخوص أوربية عبر سرد جزء من التمثلات السائدة مجتمعيا عن الآخر، تلك التمثلات التي غذتها قرون من الصراع والدماء والآلام والتعاون بين المغاربة والأوربيين، والنتيجة أن معرفة الذات تكتمل أكثر بلقاء الآخر الذي تناولته قصّة “إياك أن تنسى لورا”، لورا الإسبانية عاشت في مغرب الحماية وما بعد الحماية فمثّلت التعدد الهوياتي لبعض مدن مغرب ما بعد الاستقلال.
ومن خلال تدخل السارد تعرفنا إلى جزء من التحولات المجتمعية التي طرأت في مغرب ما بعد الاستقلال والظواهر الاجتماعية التي استجدت عليه، كانت لورا من بقايا المستعمر (الآخر) الذين فضلوا البقاء في المغرب حيث “عاث الموظفون المغاربة الجدد فسادا في الأرض” ص 15 ، عبر شخصية لورا ومن خلال الذاكرة، يُجبر الراوي على المقارنة بين الآخر الوديع المتحضر المحب للحياة والأنا الجمعية، الأنا المتخلفة والعنيفة، ومن خلال هذه العلاقة تحضر المفارقة، فالأم فطوم تخبر الراوي أن النصارى يقتلون المسلمين ومع هذا لا ينسى الراوي لورا، لا ينسى الجمال وحب الحياة.
من جهة أخرى، يعتبر اللقاء مع الآخر لقاء مع الأنا، “فتزيفتان تودوروف” يؤكد أن الأنا هو الآخر في تعامله مع إشكالية الهوية، وتتجسد هذه الفكرة في قصة وداعا شوبنهور، الأنا لا تنكشف دون التماس مع الآخر مع تجاوز النظرة الضيقة إليه.
في هذه القصة يكتشف الراوي أثناء تواجده بمارسيليا أن أرض الآخر ليست جنة تماما وهو ينام على الأرصفة والحدائق العمومية وتحت الجسور مصرحا بأن “الخجل لا يكون من الوعي بالذات بل من الآخر” ص 21 ، فبقدر ما کانت كونشيطا نشیطة وسعيدة وأنيقة يحنو عليها والدها بقدر ما وجد الراوي بأن “الغرب رحلة أو ذبحة” ص20 ، لقد عرّى اللقاء بالآخر في هذه القصة جانبا من أزمتنا الذاتية.
فإشارة الراوي إلى حنو الأب على ابنته كونشيطا إحالة ذكية على نوع التنشئة الاجتماعية الراقية التي يخضح لها الآخر الأوربي مقابل التنشئة الاجتماعية المغربية القائمة على الفوضى والتعنيف والقسر، وإشارة إلى ممارسة نوع من النقد الذاتي انطلاقا من المغايرة والعلاقة بالآخر.
في قصة “داود والتفاحة” تشتغل الذاكرة الجمعية من اللقاء بالغير الإسباني المستعمر عند ما يسرد السارد واقعة ترديد البحارة الإسبان شعار: “الكل من أجل الوطن Todopour lapatrio”، حيث يغيب عن هذه العلاقة الطابع الصدامي والتناقض التناحري، فالحانات الرخيصة تجمع بين الفقراء المغاربة والبحارين الإسبان الفقراء يقول السارد في قصة داود والتفاحة: “لم تكن تخلو حانات المدينة من دراويش يعشقون الشعر وخبز الشعير والغناء” ص24، باختصار، لا تتشكل الهوية إلا بذاكرة متوقدة، واللقاء بالمختلف عنا يحفزها.
من الملاحظ أن فكرة الاختزال تحضر بقوه في متون عدد مهم من السرود العربية التي اشتغلت بموضوع علاقة الأنا بالآخر الغربي تحدیدا، خصوصا أنها متون كتبت في مرحلة ما قبل تشكل الدولة الوطنية، وكان من الطبيعي أن يشكل اللقاء بالآخر صدمة حضارية لها ارتداداتها القوية على الكتاب العرب، هذا الاختزال كان يدل على نوع من الانغلاق الهوياتي المتعالي على حقائق الواقع الموضوعي ولا يعكس إلا واقعا ذاتيا لا غير.
غير أن عبد السلام الجباري في مجموعته “وداعا شوبنهاور” نأى بنفسه عن هذا الطرح، وحاول ما أمكن تفكيك شخصية الآخر وبناه الذهنية بعيدا عن أي تقزيم أو انبهار، فالسارد في قصة كأس الدكتور رایموند هارنیط يتذكر حانة غرناطة وهو صاحب مقولة: “الكأس الأولى بالماء والثانية بدون ماء و الثالثة ماء” ص 65.
يقدم صورة الغربي المحب للحياة، وتتجلى فكرة النأي عن سجن الآخر في المقولات الجاهزة أكثر قصة “أوهام سيربنطيس القزمية”، يقول السارد : “يدخل سيربنطيس في صراع مع ذاته، ثم يتساءل قائلا: هل القهوة والجريدة وكتابة الخواطر التي تتحدث عن المستقبل والحاضر والماضي أو المشي جنب المحيط ونزهة خفيفة تجعل الذاكرة تعود إلى زمن ولّى” ص 77.
في هذه القصة يقدم القاص صورة بعيدة عن التنميط الكلاسيكي الذي ميز السرد العربي في معظمه في رؤيته للآخر، إن الآخر ليس عقلانيا تماما، لأن سيربنطيس حسب السارد “يشك بنتائج العلم”،ص79”.
وهو صراع له مرجعيتان : الأولى صراع الكنيسة مع العلم، والثانية “صراع الذات مع الموضوع أو صراع النار مع الرماد” ص 78 .
يقدم السارد شخصية سيربنطيس بشكل إيجابي، فهو الأوربي المتحضر العاشق للموسيقى والصور الفوتوغرافية والكتب والأوراق والكتابة السردية، شخصية قلقة متشبعة بالعلم، بيد أنها تحمل التناقض نفسه الذي يحمله كرها جزء من الأنتلجنسيا المغربية، هذه النظرة إلى الآخر تغذيها نزعة إلى الندية أثناء الحوار معه دون إحساس بالدونية، فالسارد يحاور الآخر المتمثل في آنا شقيقة سيربنطس قائلا: “إنها مجرد أحلام آنا ، فترد عليه : أجل، مجرد أحلام… لكن هذا رأيك” ص 80.
يشكل قلق الانتماء أحد وجوه علاقة الأنا بالآخر في نص “الدار البيضاء”، البطلة ماري مغربية مهاجرة مستقرة في مدريد، أثناء لقائها بالراوي نتعرف إلى شخصيتها المنهكة بالصرامة والانضباط في المهجر، فتتشكل ماهية الأشياء بالنسبة إليها بالمقارنة بين مدريد والبيضاء، بين الأنا والآخر.
يقول السارد : “ماذا يعجبك في هذه الدار؟ اختلافها عن مدريد، وأضافت: في مدريد الصرامة وفي الدار البيضاء الحنان” ص 82، مرة أخرى تتحدد العلاقة مع الآخر من خلال المواجهة التي تفضي إلى المقارنة ومن ثمّ نقد جفافه الإنساني الذي يكاد يخلو من العواطف “تردد ماري في مدريد كل شيء إلا الحنان” ص87.
ويعالج الكاتب قلق الانتماء هذا من خلال تشريح ذكي للمسألة إلى درجة تماهي صوت الكاتب مع صوت السارد، ذلك التماهي الذي يعبِّر عن موقف واضح من المسألة.
القاص عين السلام الجباري لا يقمع صوت المختلف عنا ويترك له مهمة التعبير عن نفسه بكل أريحيّة حتى يتمكن المتلقي من الاستماع إلى صوته دون إقصائه أو التعسف عليه بعيدا عن الكليشيهات التقليدية التی تؤطر رؤيتنا الإبداعية للآخر، وكأن ثمة ميثاق يربط القاص بالمتلقي يلزمه بتحري الموضوعية، إذ يقال إن كل كاتب يكتب بحضور قارئ ما أو يكتب لكي يقرأ حسب تعبير موريس بلانشو، فجيجي الإيطالية إحدى بطلات قصة Antonio Vivaldi تشبه إلى حد کبیر النساء المغربيات في سلوكهن اليومي وفي علاقاتهن الأسرية، وعندما يخبر الراوي مانو الإيطالية بأن ميلانو مدينة في طريقها إلى الزوال ترد عليه بأن العملية معقدة” ص ،122 متسائلة قبل ذلك: “أليست هناك لغة أخرى؟” ص312 .
مانو تعبر عن قلقها في مجتمع استهلاكي متقدم تحكمه علائق أخرى لكنها علائق على تميزها تظل غير بعيدة عن المشترك الإنساني، ولا أظنها صدفة أن يتغنى السارد في هذه القصة بجمالية المكان الذي يفصح في جزء منه عن هوية الآخر من خلال وصف عابر وسريع يشبه اللقطات السينمائية الومضية ومع ذلك تحافظ على بعدها الدلالي “الأبواب، الشرفات، النوافذ، الرخام، النبيذ، الجسور.. وتلك الطيور التي تنقب على أعشاب نبتت على رؤوس وجوه التماثيل”ص 123، ويبلغ حوار الأنا والآخر أقصى تأزمه مع مانو التي يمثل الآخر صداه في إحدى حانات البندقية من خلال تأجيل السارد الشرب للتبول.
وقد جسّدت هذه الحادثة رغبة لا شعورية في الاحتجاج على جرح الانتماء الذي كشفه الآخر، ما دامت كل الأماكن في المغرب –كما يقول السارد- مباحة للتبول، مانو تساءلت بحرية عن اللغة وهي التي تكاد تكون كينونة، فيما السارد فكرفي نهاية القصة في مدننا التي أنهكها الفراغ” ص 124.
في قصة “طائر المقهى L’olivo” لا يتوانى الكاتب عن نقد البنى الاجتماعية والاقتصادية عبر الآخر، لأن الوعي بالذات تحدده معايير اجتماعية مشتركة، وهو الذي يدفع نحو المقارنة بالآخر لتحديد إحداثيات موقع الذات.