25, أكتوبر 2024

الكاتب والإعلامي “كوكاس” في حديث مع المنعطف

حاورته : ليلى خزيمة

«كوفيد 19 زعزع ثقتنا باليقينيات التي كانت مثل وسادة الكسالى التي ننام عليها باطمئنان»، بهذه العبارة افتتح الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس حديثه معنا.

اسم ارتبط برئاسة تحرير العديد من الصحف الأسبوعية المغربية المستقلة. عمل محللا سياسيا بالعديد من القنوات العربية والدولية، ونجح في بصم الصحافة المغربية بكتابة نوعية وجريئة، كما طبع المجال الأدبي والثقافي بأسلوب متميز يجمع بين عمق الفكرة ومتعة أسلوب أدبي باذخ. كان لنا معه هذا اللقاء الشيق على هامش صدور كتابه الرسالة الأخيرة لفخامة الإمبراطور كوفيد التاسع عشر المعظم.

أهم ما يلفت الانتباه في كتابيك التأمليين حول فيروس كورونا، هو طرافة العنوان وبعده الساخر، كيف استوحيت اسم الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر؟

ليست السخرية نقيضا للجد كما درجنا على ذلك عادة، بل السخرية طريقة لقلب العالم لنرى له هيئة معقولة. لقد كنا وجها لوجه أمام فيروس متحور نختفي وراء أقنعة، فيروس حقير ميكروسكوبي ينشر الموت من حولنا في أشد الأبعاد حميمية من الهواء إلى اللمس والقبل.

فلجوئي للمرح هو طريقة في محاولة مواجهة الموت ربما ببعض المرح، أو هو محاولة ممارسة نقد فكري وتأملي، من هنا وقع اختياري على عنوان إمبراطوري يليق بفيروس زلزل اطمئناننا، أدخل ثلاثة أرباع البشرية في الحجر الصحي، شل الاقتصاد، أعلنت الدول بسببه حالات الطوارئ، ونزول الجيش في الشوارع حتى في الدول العظمى، رأينا الدبابات تنزل إلى الشوارع في جل دول العالم، المدرعات التي لم نعتدها تحتل مواقع أساسية حساسة في مدننا، لم يكن ذلك مجرد استعراض عسكري في مناسبة وطنية، إن الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر، هو من أعلن الحرب واختار توقيتها، وجبهتها. في كل حي وشارع هناك متاريس للأمن ضد من؟ ضد الفيروس المبجل كوفيد التاسع عشر.

تعتبر الهشاشة واللايقين من بين النقاط التي تطرقتم إليها في كتابكم. فكيف ستؤثر الهشاشة الفكرية خاصة والتي كشف عنها فيروس كورونا، على مستقبل الشعوب والأمم؟

لقد زعزع فيروس كورونا ثقتنا بالعديد من اليقينيات التي كانت أشبه بوسادة الكسالى التي ننام عليها باطمئنان. أخرسنا الفيروس وحدّ من ثرثرتنا ولو إلى حين، ومن فعاليتنا الاجتماعية ومن سعادتنا المفترضة بالسيطرة على العالم والتحكم عبر التفوق العلمي على الطبيعة.

فلذلك استحق عن جدارة لقب فخامة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر. فالنبرة الإيقاعية للجملة تشير من حيث الحمولة إلى كبار أباطرة العالم: نيرون، جنكيزخان، لويس الرابع عشر، فيروس مخاتل حيّر العالم بأسره، شغل العلماء وأعجزهم وأحرج السياسيين وأربكهم، وأخرج السحرة والمشعوذين والمتشبعون بنظريات المؤامرة من جحورهم.

لذلك لم نعد نثق بشيء اليوم كما كنا بالأمس على الأقل، تزلزل إيماننا المطلق والساحر بالعلم وبقدراتنا الإنسانية الاستثنائية. كورونا ليس مجرد جائحة اكتسحت العالم وشلت دورة الحياة في كل أنحاء المعمور، وأدخلت ثلثي البشرية في الحجر الصحي لشهور، لقد كانت فرصة نادرة في الوجود لإعادة مساءلة القيم الوجودية التي أسندنا عليها ثقتنا بتفوق الجنس البشري وإخضاعه للطبيعة وتطويعها من أجل إسعاده.

هذا الفيروس غير المرئي الذي لم تتضح بعد كل أسراره وطبيعته ومنشئه، زلزل الكون وجعلنا نلقي خلفنا كل القناعات التي استكنا إليها لقرون طويلة.

وقد حاولت مقاربة قضايا عديدة على الأقل من باب محاولة طرح الأسئلة السليمة لفهم أصح: هل الوباء التاجي كحدث جلل يمكن أن يكون له أثر أكبر على انعطاف تاريخنا المعاصر، حتى يؤدي إلى انهيار النظام الكوني أو تغيير جيوسياسي من حجم عودة شمس العالم إلى الشرق مع التنين الصيني؟ هل تؤدي الوقائع الكبرى بالضرورة إلى تحولات جيوسياسية كبرى؟ وبحكم الاختلاف حول هوية فيروس كورونا أهو طبيعي أم سلاح بيولوجي، كيف غذت نظرية المؤامرة الأكاذيب الكبرى المرتبطة بكوفيد 19 وكيف استفادت منها الأنظمة الأقل شفافية والأكثر تكتما؟ ولم يتأخر السياسيون والقادة في اتخاذ تدابير استباقية للتخفيف من حجم الخسائر رغم وجود تنبؤات علماء البيولوجيا وأحوال الطقس والزلازل والبراكين والأوبئة… بالكوارث العظمى بما فيها فيروس كوفيد 19 قبل حدوثها؟ هل لقلة التبصر أم لتكلفتها المالية والاقتصادية وعدم مردوديتها السياسية في استقطاب الأصوات الانتخابية لأن الجمهور لا ترضيه تكلفة الاستعداد للكوارث إذ لا يفكر سوى في الخروج منها بعد وقوعها؟

لو أن فيروس كورونا حل علينا في زمن لم تكن فيه بعد وسائل التواصل الاجتماعي، هل كان ليحظى بهذه الهيبة والمكانة التي وصل إليها؟

هناك بعدان أساسيان منحا كورونا ميزة جمالية استثنائية، يتمثل البعد الأول في أن كورونا ليست أخطر الأوبئة التي حلت بالإنسانية، لكن ما ميزها أن العلم لم يكن متقدما في السابق كما هو عليه الأمر اليوم.

فمنذ جوائح الجذري، التيفويد، الكوليرا، الطاعون الأسود، كان حتى العلماء يفسرون هذه الأوبئة بشكل غيبي، أو يتكئون على التفسير السحري أو الديني الذي يعيد الأوبئة إلى السخط أو الانتقام أو العقاب الإلاهي.

وهناك بعد آخر مرتبط بأن فيروس كورونا جاء في زمن التواصل الاجتماعي وهذا ما منحه جمالية خاصية بمعنى شاعري فقط. هناك العديد من الرسائل، الصور، الفيديوهات التي تتقاطر علينا في كل ثانية وتدخلنا في سلسلة من الرعب والخوف.

وباء كورونا المستجد جاء في زمن التطور الرقمي وسطوة وسائط التواصل الاجتماعي التي منحت الفيروس المعولم طابعا استثنائيا وأعطته أبعادا غير مسبوقة في تاريخ الجوائح والأوبئة.

ورأينا كيف أعاد فيروس كورونا قيم السحر إلى العالم والتبشيرات القيامية المنذرة بالعذاب الإلاهي ونهاية العالم. في ذات الآن أصيب النظام الاستهلاكي الذي غدا أسطورة عالمنا بما يشبه الجرح النرجسي، حيث انقض الناس تحت رعب الجوع والموت على المنتوجات والسلع الفائضة عن الحاجة، كأنهم يخشون بقاءها بعد فنائهم، أو أن تكتسب حياة خاصة بها وهم من يصنعونها ويرسمون مسار حياتها وموتها في آن؟

كيف قلب الفيروس موازين القوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟

لكل زمان الوباء الذي يستحقه، وفيروس كورونا يستحقنا ونستحقه، لقد وصلنا إلى لحظة اعتقدنا فيها أننا نسيطر على الكون، وأن الإنسان بلغ سدرة المنتهى في سلم الحضارة، وأننا انتقلنا من الإنسان الطبيعي إلى “الإنسان الأعلى” الذي لا يقهر، وها هو فيروس كورونا يعلمنا الكثير من التواضع، لقد فرض علينا الكمامة التي تخرسنا لنستمع إلى صمت العالم وأنين الطبيعة وأن ننتبه إلى أن التواضع هو أساس الرفعة.

إن العالم سليل التشبيهات والمجازات، في حياتنا اليومية نحرس على التماثل، إيجاد علاقات المجاورة بين الأشياء القائمة في الوجود، واعتقدنا بفضل العلم والتكنولوجيا أننا وضعنا كل الموجودات في خانات متشابهة، لا بد لشيء أن يشبه الآخر.

لقد نعت العديد من النقاد أسلوب كتابة في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر بالمرح.

فلما هذا الاختيار؟ وكيف تمكنتم من المزاوجة بين المأساوي التراجيدي والكوميدي؟

ليست السخرية نقيضا للحزن والألم، بدليل ما قاله المتنبي “وكم ذا بمصر من مضحكات لكنه ضحك كالبكاء”، أو كما نقول في المثل المغربي: “كيضحك بحال الراس المشوط” أو “كثرة الهم كتضحك”، فالضحك هنا ليس سوى محاولة استيعاب التحولات التراجيدية، كالتي فجر فينا طاقة هائلة للباروديا، للضحك والسخرية، وهذا ما حاولت أن أقوم به في جزء من كتابي في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر.

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version