ثمة تجليات كثيرة للفكاهة كفنفي المغرب.. بعضها برز من خلال العنصر الجماعي الذي أفلح في “صناعة الضحك” في زمن كانت فيه الفكاهة المغربية تعيش مخاض التأسيس،وقد برز كرواد لها، خاصة بعد الاستقلال مباشرة،فنانون موهوبون، كالبشير لعلج وبوشعيب البيضاوي والقدميري والمفضل الحريزي وبوجمعة أوجود، الذين جسدوا المسرح آنذاك في صورته الفطرية من خلال “سكيتشات” هزلية وبعض التمثيليات التي كانت ثبت عبر الإذاعة، وبعدها التلفزيون، لتأتي بعد ذلك “صناعة الضحك” من خلال جيل آخر، من رواد الفكاهة، والذين تابعهم المغاربة بشغف عبر التلفزيون، كبلقاس وعبد الجبار لوزير وعبد الرحيم التونسي (عبد الرؤوف) وحمادي عمور والداسوكينوالزعري ومحمد بنبراهيم وعبد الرحمان برادي وخديجة أسد وزوجها عزيز سعد الله وغيرهم كثير. قبل أن تبرز ظاهرة الثنائي، والتي أنجبت فكاهيين كبار، كـ”قشبل وزروال” و”قرزز ومحراش”،و”باز وبزيز”، و”السفاجومهيول”، و”الصداقة”، و”عاجل وفلان” و”التيقار”، و”لهبال” و”الهناوات”، و”الثنائي 90″ و”الزيكوالزاك” وآخرون.
لكن بين فكاهة هؤلاء وفكاهة الكوميديين اليوم، ثمة مسافة من الاختلاف، سواء من حيث الأسلوب أو الأداء أو التيمة أو الإمكانيات، إذ لكل جيل من صناع الضحك جمهوره.. وجمهور اليوم يختلف عن سابقه، بالنظر إلى حاجة كل منهما إلى التفكه من صميم الواقع الذي يعيشه.
في هذا الركن، نسلط الضوء على فنان مغربي من رواد فن الكوميديا في المغرب، وفي هذه الحلقة نتوقف عند الفنان:الفنان مصطفى الزعري
رغم وقوفه عند عتبة العقد الثامن، ما يزال الفنان مصطفى الزعري مهووسا بروح النكتة، وموسوما بطابعه المرح الذي عرف به منذ اقتحامه لعوالم الفن في ستينيات القرن الماضي.. لذلك، عندما يجالسه الأصدقاء في إحدى المقاهي بوسط مدينة الدارالبيضاء، يجدون أنفسهم في حضرة مبدع بحس فكاهي نادر، يختزل مساره الفني حيزا مهما من الذاكرة الفنية للمغرب. فهو واحد من رواد الكوميديا في المملكة، وأحد المؤسسين معية رفيقه مصطفى الداسوكين، إلى جانب آخرين، لظاهرة “الثنائي الفكاهي” في المغرب. فضلا عن كونه ممثل متمكن من أصول المهنة، سواء على خشبة المسرح أو التلفزيون أو السينما.
ولد الفنان مصطفى الزعري في 5 نونبر 1945،في درب لوبيلا بالمدينة القديمة في الدارالبيضاء، وترعرع في درب كلوطي، وفي مرحلة اليفاعة، انتقل للسكن في منطقة سباتة، وتحديدا بحي العهد الجديد.. وقتها لم يكن يفعل شيئا سوى الشجار مع الأقران ومع الجيران، فطلبت والدته من شقيقها أن يجد له حلا يبعده عن الحي، وكان خاله وقتها يُدَرِّس برفقة الفنان عبد العظيم الشناوي في إحدى المدارس.ومن حسن حظ الزعري أن الشناوي كان وقتها (1961) يرأس فرقة “الأخوة العربية” للمسرح. لذلك، عندما اقترح الخال على الشناوي انضمام الزعري اليافع إلى فرقته، قبل فورا، ومن تَمة أصبح الأخير وهو في عمر 16 سنة يفتح النادي وينظفه بل ويواظب على حضور التداريب المسرحية بالقدر الذي جعله يحفظ أدور الممثلين والممثلات. كما تعلم الزعري في هذا المحترف صناعة الديكور وفن التمثيل، قبل أن يغتنم فرصة امتناع أحد أعضاء الفرقة عن لعب مسرحية “الحائرة”، وكان الشناوي يعدها لمسابقة مسرح الهواة التي تنظمها وزارة الشباب والرياضة، آنذاك اقترح الزعري نفسه كبديل له، خاصة وأن الممثل الذي امتنع كان يلعب دور البطولة.. وأثناء عرض المسرحية أعجبت لجنة التحكيم بالزعري وتنبأت له بمستقبل زاهر في المسرح، وكانت تتشكل من الطيب الصديقي والطيب لعلج وعبد القادر البدوي.
بعدها أصبح الشناوي يعتمد على الزعري كممثل أساسي في فرقته، كما عمل مع الفنان بوشعيب البيضاوي في بداية ستينيات القرن الماضي، وكانت فرقته قد استعانت به معية عبد العظيم الشناوي في مهرجان مكناس للفلاحة. وقتها كان الفنان لحبيبالقدميري قد دخل في خلاف مع البيضاوي، فقام الزعري بتعويضه. وهي فرصة نادرة للزعري ليكون بجوار رواد الفكاهة في المغرب.
بعد هذه التجربة أسس الزعري معية الفنان مصطفى الداسوكين ثنائيا ناجحا، وكان الأبرز ضمن باقي الثنائيات في المغرب، حيث كان “ثنائي الداسوكينوالزعري” حاضرا بقوة في التلفزيون والمهرجانات الفنية لقوته في صناعة الضحك، ولقدرته الهائلة في ترجمة هموم المغاربة إلى كوميديا سوداء تتهكم على الواقع من خلال معالجة ذكية للمواضيع.. كما أصبح هذا الثنائي الفكاهي فيما بعد، مادة فنية ضمن سهرات الملك الراحل الحسن الثاني التي ينظمها في القصر.