ليلى خزيمة
أول ما يلفت نظرك وأنت تحادثه، البشاشة التي على محياه. ابتسامة وخفة ظل معدية تشعرك بالسعادة. أما عندما يبدأ الحديث عن فنه، فالشغف والجرأة والكرم، هيمن أكثر الخصال التي يتمتع بها الشاف العالمي الذي اختار لمطعمه بمراكش رياضا كان سابقا في ملكية مصمم الأزياء الفرنسي الكبير بيير بالمان. وبنفس الطلاقة والعفوية خلف الموقد وأمام الكاميرات، أصبح الشاف موحا شخصية إعلامية في المغرب من خلال مشاركته في العديد من برامج الطهي. لا حدود لحماسه عندما يتعلق الأمر بالترويج لفن الطبخ المغربي. ففي جعبته ثماني كتب تسلط الضوء على تراث الأجداد. تحديه وهدفه الدائم هو إدراج المزيد من الأطباق التقليديةلفن الطبخ المغربي إلى مصاف التراث الثقافي الإنساني. ومن خلال سمر رمضاني، تجاذبنا أطراف الحديث مع ابن المدينة الحمراء الذي استعاد ذكريات الطفولة والدراسة وأجواء رمضان من خلال الرائحة والذوق والابداع. فبدأ لنا الحكاية من أول نقطة.
حلم يتحقق
عندما كنت صغيرا، كنت أقطن بالقرب من فندق “المامونية”، وكنت منبهرا بهذه المؤسسة الفندقية حتى في أدق تفاصيلها ولباس الشخص الذي يقف على بابها مستقبلا السياح. فكنت أقول دائما في نفسي يا ليتني أعمل يوما بالمامونية. شاءت الأقدار أنني أتممت دراستي الأساسية وحصلت على تدريب من دون راتب لمدة 11 شهرا بهذا القصر الفندقي. قمت خلال التدريب بجميع الوظائف من الاستقبال إلى المطبخ إلى خدمة الغرف إلى خذمة الزبناء وتقديم الاطباق. سنة 1985، سافرتإلى سويسرا، وولجت المدرسة الفندقية بجنيف. كان حلمي يتحقق. فليس من السهل أن تدخل هذه المدرسة في تلك الآونة. هنا بدأ مساري الحقيقي. فقد واجهت صعوبات عدة. لم أكنأتقن تحضير الأطباق. ففي بيتنا، كنا نقوم بجميع الأعمال إلا الطبخ. كنا نوزع الاعمال المنزلية. مهمتي كانت هي التنظيف أما الطبخ فمسؤولية نساء العائلة. لفت اهتمامي بالمهنة نظر أحد أساتذتي فقال: سيكون لك شأن كبير في فن الطبخ. فعلا، ثابرت وأتممت دراستي بهذه المؤسسة. وفي مرحلة انتقاء ميدان التدريب، طلب مني أستاذي أن ألتحق في أول تدريب لي بفرقة العمل بمطبخه بالمؤسسة ذاتها وأن أصبح مكونا للطلبة الجدد. وهذا ما كان وتقلدت مهمة مكون متدرب للطلبة بمدرسة الفندقة بجنيف. عندما أنهيت فترة التدريب التي دامت 6 أشهر، قلت لأستاذي يجب أن أتدرب الآن على وظيفة الاستقبال، وقمت به. لكن هذه الأخيرة تتطلب ارتداء الزي الرسمي بربطة العنق. فاكتشفت أن العمل هنا بالنسبة لي سيكون متكررا ومملا ولن أحقق فيه ذاتي. توجهت بعدهاإلى قسم المحاسبة، فكان الوضع أسوا، لأنني أتقن كل شيء إلا الحسابات. بعد مرور الأشهر الستة، عدت إلى الشاف تورنورأستاذي، وطلبت منه مساعدتي للحصول على وظيفة جيدة بفندق جيد. فوجهني إلى الفندق الذي كان يشتغل به. وأعطاني كمهمة “رئيس فرقة”. عملت بهذا الفندق إلى أن أصبحت مساعد رئيس الطهاة.».
الوطن ينادي
سنة 1998، كنت أمتلك الرياض بمدينة مراكش، وأتيحت لي الفرصة للعودة. وقلت سأمنح نفسي فترة سنتين وأجرب حظي وأصنع منه نزلا لاستقبال السياح. علما أنني لم أكن أتقن فن الطبخ المغربي. كنت على دراية ببعض الأساسيات كأي مغربي لا أقل ولا أكثر، لأنني كنت مختصا في فن الطبخ العالمي وفي جعبتي خبرة لمدة 14 عاما من العمل بأكبر الفنادق المصنفة والمؤسسات الفندقية بسويسرا وكنت متمرسا على المطبخ السويسري والإيطالي والفرنسي. دخلت المغرب بذلك الإرث المعرفي من المطبخ العالمي والمطبخ المغربي، لكن لم يكن باستطاعتي أن أفتتح مطعا للأطباق العالمية وسط مدينة مراكش وأتنافس مع الطهاة الأجانب بالمدينة. فلن يثق الزبون فيما سأقدمه من المطبخ العالمي وهو يعلم أن هناك أجنبي يقدم نفس الخدمة. فقلت، أن أفتتح رياضا مغربيا يجب أن أقدم فيه مأكولات مغربية. من هنا بدأت العمل، فقصدت والدتي وبعض صديقاتها لصقل مهاراتي في الميدان. لكن لم أقدم المطبخ المغربي بالطريقة التقليدية، بل قمت باستغلال مهاراتي بالمطبخ العالمي وأعدت تقديم الأطباق التقليدية المغربية بطريقة حداثية. فأصبح طبق الكسكس بصيغة المفرد والمثنى متاحا كما هو بصيغة الجماعة. وكذلك أطباق أخرى متنوعة، ليجد كل ضالته. وكانت هذه نقطة القوة فيما قدمت. فاهتمت الصحافة لما أقدم، وكتبت صحيفة باري ماتش عن مطبخي وأسلوب عملي في 12 صفحة، بعدها صحيفة نيويورك تايمزوبي بي سي ومختلف الصحف العالمية. فاكتسبت ثقة الجميع وأصبحت أشارك في مختلف التظاهرات العالمية في شمال أمريكا وجنوبها وأستراليا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا وانجلترا. فقمت بعدها بفتح مطعم بباريس ومدريد. وأنا الآن لازلت أبتكر وأجرب أفكارا جديدة وأنقل معارفي للشباب.
لرمضان ترتيب آخر
رمضان بالنسبة لي، يكون في مجمله للعمل. نعمل كي نقدم الأفضل للزبناء. حتى فترة الإفطار، لا يكون لدينا متسع من الوقت لكي نتناول وجبة متكاملة وفي هدوء. بل نكتفي بثمرة وبالماء نتناولها في خضم المهام الكثيرة التي تكون على عاتقنا في تلك اللحظات.
عندما كنت صغيرا، عشت في منزل داخل مزرعة. كنا نتناول البيض البلدي وحساء الحريرة وكل المأكولات المغربية التقليدية التي تعد خصيصا للشهر الكريم،كأي عائلة مغربية. نتناول وجبة الإفطار وبعدها وجبة العشاء. عند السحور، نتناول “البغرير” الذي يطهى في ساعتها مع الزبدة والعسل. لازالت تلك الرائحة عالقة في أنفي. كانت زكية ومشبعة وغنية. لم أتمكن من نسيان هذه الطقوس وتلك الروائح الزكية. كما كنا نعد أطباقا بالبيض و”لخليع” وما إلى ذلك. فالميزة التي كانت لدينا هي أننا كنا نعيش داخل مزرعة. هذا يعني أن كل المكونات كانت متوفرة وطرية وتراثية، من البستان إلى الطبق.
السفير الدائم للمطبخ المغربي
عدت للتو من مدينة مارسيليا بعدما شاركت في حدث يحتفي بالمطبخ الافريقي. فلأول مرة اجتمع كبار الطهاة الأفارقة في مارسيليا وقدمنا أول نسخة من هذا الحدث. كان له صدى عالمي كبير وكلل بالنجاح. وقد اقترح الجميع لأن ننظم الحدث بالمغرب العام المقبل إن شاء الله. الآن لدي حدث بدولة الإمارات سيستمر لمدة 15 يوما بأحد أشهر الفنادق بإمارة دبي. وهو حدث سنوي أقترح فيه كل سنة فن الطبخ المغربي.
وسأقدم في هذا الشهر الفضيل لقراء المنعطف، وصفتين تسعدان كل المغاربة وهي في متناول الجميع.