18, أكتوبر 2024

ليلى خزيمة

في زمننا هذا، أصبح الجميع يتحدث عن التحولات المناخية وانعكاساتها على الانسان وعلاقتها بالسكن وأهمية مراعاة البيئة في حياتنا اليومية وأشياء أخرى. هوس سيطر على حياة الانسان رغم أن أفعاله تجاه هذه البيئة لا تتوافق مع أقواله في معظم الأحوال. لكن ودونما حديث، عمل أجدادنا على التعايش مع محيطهم وبيئتهم في احترام تام. فشيدوا وأقاموا وعملوا بجد من أجل المحافظة على حياتهم وعيشهم دون الإضرار بمحيطهم. خير مثال على هذا التقاني في احترام الطبيعة، هو تلك الأبنية الأسطوانية الشكل المتناثرة بإقليم الجديدة.

منشآة تقليدية مبنية من الحجارةوموروث تستأثر به في المغرب منطقة دكالة. حجر فوق حجر من دون إسمنت أو رمل أو حديد، مرصوص بدقة متناهية أُطلق عليها اسم الطازوطة. استقر السكان في هذه المباني الفريدةربما  منذ قرون بعيدة على امتداد المسافة ما بين مدينةأزمور إلى حدود حد أولاد عيسى. أسطوانية الشكل، لم يحدد بعد فعليا زمن نشأتها، لكن بعض الدراسات تشيرإلى أن عمرها يزيد عن الثلاث مائة سنة، وهناك من يقول أن سكان دكالة أخذوها عن الفينيقيين والرومان الذين استقروا بالمنطقة ما بين أزمور وسيدي بنور. أما عن أسباب اللجوء لفكرة استخدام الحجارة، فيعود الأمر لظروف العيش زمن ابتكارها ولتوفر الأحجار بكثرة على أسطح الأراضي الفلاحية لهذه المنطقة لدرجة إعاقة عملية الحرث والتنقل. فلجأت الساكنة إلى استخدام الحجارة في بنايات لأغراض عملية. من بين هذه الأغراض المسكن ومحل لتخزين الحبوب والعلف وإيواء المواشي. أما اليوم فما تبقى منها، يستخدم بعضهكمنشآت سياحية، تستقطب السياح بشكلها الفريد والمتميز.

مستدامة بطبعها، لا تتأثر الطازوطة بالعوامل الطبيعية العادية. كما أنها تحمي من الأمطار والرياح في فصل الشتاء، ومن الحر والشمس في فصل الصيف. لكن هذا لا يمنع من دخول الهواء المنعش وبهذا، فالطازوطة لا تؤثر سلبا على الطبيعة.

فرضيات التسمية   

تتنافس عدة فرضيات حول أصل تسمية الطازوطة. فهناك من ينسب الاسم إلى كلمة “تازوديا” التي تعني بالأمازيغية وعاء مقعرا، لأن الهيئة تشبه شكل وعاء مقعر مقلوب يستعمل لتقديم أكلة “الحريرة”. وهناك من ينسبه إلى مقابل كلمة “النوالة” والتي تعني دائما بالأمازيغية الكوخ البسيط مخروطيُ الشكل المبني بواسطة أعمدة عن طريق قرن رؤوسها من أعلى. وهناك من يقول أن أصل التسمية طازوطةيعني المكحلة التي تضع فيها المرأة الأمازيغية كحلها للزينة، وكذلك تعني بالأمازيغية الأحجار المتراصة والمنسقة. ويقول بعض المحليين أن الكلمة مشتقة من “أزطا” أي النسج. ومن بين الفرضيات كذلك أن الأصل في التسمية إسباني لتشابهه مع كلمة “طاسيطا” أي فنجان القهوة.

الابداع الهندسي

يتميز هذا النوع من البناء التراثي بشكله المقعر المعكوس وباعتماده على مادة وحيدة هي الحجر. تتشكل قاعدة الطازوطة من جدار دائري عريض مبني برص الأحجار على بعضها، دون أي إضافات. ويكون الجزء العلوي من الطازوطة مخروطي الشكل، وهو أيضا لا يعتمد إلا على رص الأحجار بطريقة هندسية فريدة تضمن التوازن.

تتألف الطازوطة من قاعدة تكون عموما دائرية الشكل، كما يمكن أن تتخذ أشكالا أخرى من الخارج كالشكل المربع. وتتوفر على مدخل واحد. هذا الباب يكون بعلو 0,75 إلى متر وبعرض يتراوح ما بين 60 و80 سنتيمتر وشكله شبه منحرف. غالبا ما تكون هناك نافذه مباشرة فوق المدخل. تمكن هذه النافذة من التهوية، ومن الإضاءة الطبيعية وخصوصا إدخال التبن خلال المرحلة الأولى من عملية تخزينه.

أما الجزء العلوي فيكون غالبا على شكل مخروط مفتوح نحو الأسفل. كما تتوفر الطازوطة على سلمأو سلمين خارجيين يبدآن من الأرضية ويلتفان على جسمها ليصلا حتى قمة الجزء المخروطي. هذه السلالم تشكَل مباشرة من الأحجار التي يتم رصها لإنجاز القاعدة والمخروط، وهذا يعطي للطازوطة شكلا حلزونيا.تستغل السلالم للصعود إلى السطح من أجل صيانة البناية من آثار التساقطات المطرية، أو من أجل تجفيفوتيبيس الحبوب أو بعض الفواكه.

أما وزن البناء فقد يتراوح ما من 90 طن إلى 300 طن بينما يصل علو الجدار عادة إلى ثلاثة أمتار وقد يصل إلى خمسة في بعض الأحيان. الأرضية الداخلية على أصلها لم يشكلها الانسان، ليس بها أي إضافات بل يمكن أن تجدها من الحجر الخام.  قد تصل مدة بناء الطازوطةإلى ما يقارب السنة أو أقل منذ بدأ عملية جلب الحجارة إلى الانتهاء من تشييدها. كان البناء وهو فلاح يضع الحجارة جانبا، مختارا من بين التي يجلبها من الحقول تلك التي بدت له الأفضل. ثم تقوم سلسلة من الرجالبتمرير الحجارة من واحد إلى الآخر وعزلها من أجل طرح تلك التي لا توافق الكثافة المناسبة. فهؤلاء الرجال، رغم أنهم ليسوا بنائين بل فلاحون بالأساس، كانوا بُناة متخصصين في هذا النوع من المنشآت.

علوم رياضية وفيزيائية

طريقة بناء الطازوطة مركبة وجد معقدة. فالباحثون لازالوا يعملون من اجل فهم تريبتها وسر صمودها رغم بساطة مكوناتها.تشير الدراسات إلى أنه عند بنائها، يتم وضع حجرة مسطحة طولا، وأخرى فوقها ليصبح طول الحجرتين 8/6 أو 4/3. ينتقل مركز القوى إلى 4/6، ولكيلا تتهاوى الحجرة المتواجدة في الأعلى، يجب تثقيلها بحجرة ثالثة. بمعنى أن البناء يتقدم بثلث الصف الأخير، مما يفسر بطء البناء وثقله. الطازوطة بناء قائم بذاته، ليس له عماد ولا أوتاد. جوهره الثقل والتوازن بين الأحجار.

يكون ارتفاع القاعدة عموما أكثر من مترين. ويكون سمك جدارها أيضا حوالي مترين أو أكثر لضمان الثبات وللحفاظ على الحرارة المعتدلة بالداخل وطرد أي نوع من الرطوبة. أما قطر المساحة الداخلية للطازوطة فحوالي خمسة أو ستة أمتار وطول المخروط حوالي ثلاثة أمتار. الجزء العلوي من الطازوطة مستدير قليلا، لأنه مغطى بطبقة من الحصى وطبقة من التراب للحماية من تسرب المياه.

ومن بين التفاصيل التقنية التي تُعتمد خلال تشييد الجدران والتي تهدف إلى سقوط الأحجار نحو الخارج في حال تعرضت الطازوطة للتهدم، إمالة الجدران قليلا نحو الخارج ضمانا لسلامة وأمن مستغليها. فالطريقة التي توضع بها الأحجار أثناء البناء تشبه شكل تَراسِ قشر الحوت، كل واحدة تشكل سندا للأخرى.وطول السرداب المؤدي إلى الداخل حوالي المتران وعرضه لا يتجاوز في أغلب الحالات ثمانون سنتيمترا. القصد من هذه القياسات هو تمكين الشخص الواحد من الدخول ومنع تسلل الحرارة المفرطة إلى الداخل.

تكوينها وعبقرية هندستها تقاوم عوامل الزمن فقد قاومت الهزات الأرضية والزلازل القوية. هناك من يقوم بتبليط الجدران الداخلية للطازوطةبخليط الطين والتبن، ويمكن بعد ذلك أيضا صباغتها وتزيينها. طاقتها الاستيعابية يمكن أن تصل ما بين 05 إلى 10 أفراد في ظروف عادية. نوع الحجر والطريقة التي تبنى بها الطازوطة يمكنانها من التكيف مع تقلبات المناخ، فهي باردة خلال فصل الصيف ودافئة خلال فصل الشتاء.

استعمالات الطازوطة

تقول بعض الدراسات إن هذه النوعية من البنايات الحجرية الضخمة و”الشاهقة” في عصرها، كان لا ينشئها ويسكن بها إلا الميسورين، في الوقت الذي كان معظم السكان يقيمون في خيام من الوبر أو في أكواخ من القش والقصب، أي ما كان يسمي ب “النوالة”. فكانت الطازوطة بأحجامها وعلوها أعلى وأشد راحة نظرا لمتانتها وتأقلمها مع أحوال الطقس. يلجأ إليها الانسان الدكالي من أجل قضاء القيلولة أو من أجل التجمع العائلي أو قصد المبيت ليلا. كما أن الطازوطة أُنشئت من أجل استعمالها كمطبخ أو لتجميع القش وكلأ البهائم والأغنام، حيث تحافظ على طراوته لمدة طويلة أكثر من أي مخزن آخر نظرا لامتياز الطازوطة بالتهوية الطبيعية. وتستعمل أيضا لتخزين الحبوب وإيواء بعض المواشي والدواجن في الحر كما في البرد.

كما كانت للطازوطة كذلك قديما وظيفة استراتيجية حربية، إذ كانت تستعمل كبرج للمراقبة في زمن الحروب وغارات القبائل على بعضها البعض فهي في ذلك الزمان أعلى المباني. ومن بديع صنع الدكاليين وفطنتهم، أنهم عند إنشاء أي طازوطة، يقومون بتجربتها إذا ما كانت صالحة للعيش وآمنة من تسلل أي دخيل. التجربة كانت تقتضي وضع ثعبان داخلها وإقفال المدخل الوحيد. وبعد مرور ثلاثة أيام يفتحون الباب. إذا وجدو الثعبان، فهي آمنة ومبنية حسب الأصول. وإن لم يجدوه، فهناك ثغرة يجب العثور عليها ومعالجة الخلل في البناء.

دراسات من أجل مستقبل واعد

لأنها مثيرة للاهتمام، ولأن بناءها فريد من نوعه وتاريخ ولادتها يطرح العديد من التساؤلات وعلاقتها وطيدة بالبيئة ومحافظة عليها، انكبت العديد من الأبحاث على دراسةالطازوطة من أجل استثمارها في مجال السياحية البيئية والايكولوجية. ومن بين اللواتي حظين بالعناية، تلك التي حوَلها مالكوها إلى نُزُل سياحية تستقطب الزوار صيفا وشتاء. مشروع أعاد للطازوطة مجدها وحقق الغاية التي أنشأت لأجلها. بل أكثر من ذلك، فقد مكن مشروع تحويلها إلى مضافات سياحية من خلق فرص عمل محلية دائمة. فأصبحت نساء القبيلة يعملن بها من خلال تحضير المأكولات المغربية التقليدية للسياح. كما يعرضن مختلف المنتوجات الفلاحية للمنطقة. وبالتالي، فهذه الطازوطة أصبحت فاعلا متميزا في العجلة الاقتصادية.

تكتسي الطازوطة أهمية حيوية نظرا لأصولها البعيدة والغموض الذي يحيط بهذا التراث الاستثنائي وبُناته الحقيقيون. ومن أجل الحفاظ على هذه المعالم التاريخية وهذا الإرث المعرفي، الذي يُعتبر منذ فترة طويلة أحد الأمثلة الفريدة في المغرب، والمساهمة بشكل فعال في تعزيز وتطوير السياحة الثقافية والبيئية بمنطقة دكالة، تتظافر الجهود من أجل سبر أغوار علومها البسيطة الممتنعة وتقصي الحقائق ضمانا لاستمرارها وإزاحة الغبار عن ماضيها العتيد وفتح الأبواب في وجه مستقبلها الزاهر.

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version