حاوره: حسن عين الحياة
لا يمكن أن تجالس المسرحي المقتدر سالم اكويندي، دون أن تخرج بقناعة أنك في حضرة مثقف موسوعي، ينصهر فيه الممثل والمؤلف والباحث والناقد.. فهو واحد من المبدعين القلائل الذي واكبت تجربته تطور المسرح المغربي منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن.. اليوم وفي عمر يناهز 74 سنة، مايزال “السي سالم” مواكبا للحركة المسرحية المغربية، يتنقل بين مسارح المملكة لمشاهدة العروض المسرحية وتقييمها لإغناء دراساته البحثية والنقدية.
في هذا الحوار، التقت “المنعطف” بالكاتب المسرحي سالم اكويندي بمسقط رأسه في منطقة بن امسيك، التي غادرها منذ 40 عاما إلى مدينة آسفي، فكان لقاءً غنيا، بالنظر إلى ما يتمتع به هذا الباحث المسرحي من نظرة عميقة للأشياء، خاصة في مقاربته بين المسرح المغربي بين الأمس واليوم.. لنتابع.
هناك سؤال كلاسيكي أطرحه دائما على المبدعين المغاربة ممن تحتفظ لهم الخزانة المسرحية بإسهامات قيمة، وهو موجه لك أيضا باعتبارك أحد رموز الإبداع الأدبي والمسرحي.. هل المسرح المغربي بخير الآن؟
مكن القول إن حالة المسرح المغربي حاليا مرضية، لكنها ليست في المستوى الذي نتمناه أو الذي كنا نتوقعه.. عموما فهي مرضية على الأقل، لأن هناك عروض تُنتج وتُشاهَد، وهناك قاعات تحتضن هذه العروض، الشيء الذي لم يكن متاحا في السابق. وبالمناسبة، كنت قد فكرت في وضع دراسة حول مسار المسرح المغربي من “الحمل على العاتق” إلى “سياسة الدعم”… فالحمل على العاتق كان يعطينا توهجا كبيرا وقويا، لا على مستوى المضامين أو مستوى بناء العروض فنيا، رغم أن المستوى المعرفي في فترته كان محدودا إلى حد ما. لكن ما كان يميزه هو الرغبة الصادقة والعمل والاجتهاد، وهذه الفترة كانت تسمى بـ”مسرح الهواة” وليس “هواة المسرح” كما يريد بعض المحرفين أن يسمونه.
“الحمل على العاتق” توصيف عزيز على السي سالم اكويندي، ماذا تقصد به تحديدا حتى نقرب الصورة أكثر للقارئ؟
الحمل على العاتق، يعني أن المسرحيين كانوا يمولون عروضهم المسرحية من جيوبهم، أي بقدراتهم المالية الممكنة، إذ لم تكن وقتها سياسة للدعم ولا مِنح كافية.. فأقصى ما يمكن أن تقدمه وزارة الشبيبة والرياضة آنذاك كمنحة لمدة عام كامل، هي 1000 درهم، وقليل من كان يستفيد منها. وبالتالي كان الممارس المسرحي هو الذي يعوض كل المستلزمات والمتطلبات المالية لتغطية مصاريف العرض، كما يتنَقَّل لتنظيمه داخل المناطق الأبعد عن مقرات التداريب وإعداد العروض. وهذه العروض كانت تُقَدَّم دون مقابل، أي بشكل مجاني، وكانت القاعات تغص بجمهور ملؤه الرغبة والشوق لمشاهدة العروض، إلى حد أن هؤلاء “الحاملين على العاتق” في المسرح المغربي استطاعوا أن يكونوا جمهورا عريضا وواسعا ومتنوعا في مشاربه وثقافته وتكوينه، بعكس ما نشاهده اليوم.
لغة الخبير الذي ينصهر فيه الممثل والمؤلف والباحث والناقد، كيف ترى المسرح المغربي اليوم على مستوى الممارسات العملية؟
هناك حاليا تكوين أكاديمي.. وبالتالي لا ننكر المجهودات التي يبدلها المسرحيون، خاصة في جانب التكوين الذي يتلقونه في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أو في المعاهد البلدية. وهذه الخبرات يتناقلونها فيما بينهم على مستوى المهرجانات والملتقيات التي تنظم محليا، حيث تتخللها ورشات لتكوين الممثل وأخرى في التقنيات وكل مستلزمات العرض، الشيء الذي كنا نفتقده في السابق. وهذا أعطانا فرجة أكاديمية مبنية على أسس علمية، كما أعطانا ممثلين يجيدون هذا المجال.. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بمعنى من المعاني “المسرح الاحترافي” أو “مهننة المهن المسرحية”، والتي يبلغ في تعدادها ما يزيد عن 30 مهنة أو اختصاص في مجال بناء العرض المسرحي، بحيث يشكل كل اختصاص مهنة ما، وهي معتمدة حاليا في سياسة الدعم.
كيف ترى هذه السياسة؟
سياسة الدعم تحتاج دائما إلى من يكملها ومن يعطيها هذه المشروعية في إنتاج العروض المسرحية، لأنه لا يكفي أن تعوض العروض أو الملفات المُقدَّمة للدعم بما يعادل 60 في المائة من كلفة بناء العرض المسرحي، رغم أن المسؤولين على إدارة الإنتاج ووضع الملفات، يقدرون هذه الأعمال، وكأنها تعطي تصورا كاملا لبناء العرض على المستوى المالي. لكن لا توجد الميزانية الكافية، بالإضافة إلى مركزة مقر اللجان التي تعطي هذا الدعم. وكنا نتمنى، بحكم أن المغربي مبني في سياسته على الجهوية واللاتمركز واللامركزية، أن تكون هناك لجان جهوية للدعم المسرحي، بحيث تتكفل كل جهة بعروضها وبإمكانياتها، مع التشديد الصارم على الإيفاء بالاستحقاقات وبتطبيق دفتر التحملات الذي يخول منحها هذا الدعم المقدم لها ماليا، وهذا يمكن أن يعطينا إنتاجا قويا وتنافسية حقيقية، وحض على المساواة، دون أي حيف في حق جهة من الجهات.
هل تقصد أن حل اللجان الجهوية سيضمن العدل في توزيع الدعم العمومي، خاصة إذا علمنا أن هناك جهات في المغرب تعرف تمركزا قويا للفرق المسرحية المحترفة بخلاف جهات أخرى؟
أنا مع التنوع والتعدد، ومع الاهتمام بكل الجهات المكونة للإدارة المغربية، ومع حقها في الاستفادة من هذا الدعم. بل إننا مع سياسة اللاتمركز، سنشجع على إنشاء الفرق المسرحية وتكوينها وخلق المنافسة بينها في تقديم الأحسن، سواء على مستوى الإنتاج أو على المستوى الفني أو على مستوى الإقناع أيضا. لأننا مع الأسف، نلاحظ حاليا هذه الكثافة وهذا التعدد وما نسميه بالزخم في العروض، لكن لا نجد على مستوى الجودة ما يقنع فنيا في بناء هذه العروض.
لماذا في نظرك يقل مستوى الإقناع في البناء الفني لهذه العروض التي تتحدث عنها؟
لأن سياسة الدعم تعتمد على الجانب الشكلي أو الجانب التقني.. أي ما يستجيب لمتطلبات دفتر التحملات. وبالتالي إن هذا الدفتر مبني على ما هو تقني أكثر مما هو فني، رغم أن الجودة عنصر أساسي داخل هذه السياسة.. وهذه الجودة لا تتحقق دائما، بقدر ما يتحقق ما نسميه بـ”شكلنة” هذه الجودة واضمحلالها. والدليل على ذلك أننا لم ننتج إلى حد الآن في سياسة الدعم هاته، منذ بدأت عام 1998، خطا مميزا أو جمالية معينة في العروض. إذ هناك تفاوت كبير. هناك عروض متميزة جدا، لكنها قليلة، ومحسوبة على رؤوس أصابع اليد الواحدة. وبالتالي، إن ما يكثر الآن هو ما يستجيب لمتطلبات دفاتر التحملات. وما زيارة لجان الدعم للعروض في بداية إنتاجها إلا مراعاة لما قدمته في طلبها وأيضا لخبرتها وما أعطي لها كمصداقية في هذا الجانب.
لنعد إلى قليلا إلى الماضي، لنقارن بين واقع المسرح المغربي بين الأمس واليوم، ما هي نقاط القوة التي ميزت مسرح الأمس، الغير متوفرة في مسرح اليوم؟
العروض المسرحية المغربية التي كانت تقدم خلال عقود الستينيات والسبعينيات ولنقل حتى إلى حدود التسعينيات، كانت تقنع الجمهور وتلبي بعض طموحاته والبعض من أفق انتظاره.
فكريا أم فُرجَويا؟
فكريا وفرجويا.. وكانت هذه العروض تحقق فعلا ما نسميه بالفُرجة، باعتبارها كانت تحقق عملية التشارك أو التجاوب.. أي الإقناع من قبل المؤدي والاقتناع من لدن المتلقي. ولهذا مازلنا نذكر عروضا بأسف، لأنها كانت تحقق عنصر الإقناع. الآن تُقَدَّم لنا عروض هي إلى حد ما، تحاول أن تقنع، لكنها لا تقنع ولا تستجيب لأفق انتظاراتنا..
يلاحظ كثيرون، أن العديد من العروض المسرحية المحترفة التي قدمت خلال السنوات القليلة الماضية، ركزت بشكل كثيف على الجانب الجمالي (السينوغرافي) على حساب النص، بالقدر الذي جعلها تتشبه في التيمات، إلى الحد الذي تخوف فيه البعض من محاولة تنميظ المسرح المغربي و”قولبته” في إطار معين، كيف ترى ذلك؟
هذه الملاحظة هي ناتجة عن ما نسميه بـ”القيام بالمثل”، بمعنى أن ما نشاهد أنه قد أبهر في تجربة معينة، تحاول التجارب التي تأتي بعده أن تستنسخه أو تقلده حتى تصل إلى مستواه، وهذا يعطينا الضحالة، لا على مستوى البناء الفكري للنصوص، ولا على مستوى البناء الفني للعروض. إذن هذه الضحالة هي ناتجة عن هذا التقليد أو عن هذه المنافسة الشكلية من أجل الاستفادة من الدعم فقط. في السابق، وتحديدا في تجربة مسرح الهواة، لم يكن الجانب المالي حاضرا، ولم تكن المنافسة من أجل الاستفادة من الدعم، بقدر ما كان الهاجس هو تحقيق مكانة مرموقة في تجربة المسرح المغربي الذي كان يسمى “مسرح الهواة”، وبالتالي، فبالرغم من تسميته “هواةً” نرى بأن الهواة الذين كانوا بالأمس، هم الجذر الأساسي للحاضرين حتى الآن. إذن هناك فراغ فكري، وأسميه بالضحالة الفكرية في خلفية العروض، لأنها شكلية أكثر مما هي حقيقية وعميقة وتمس جذورنا. ونحن نعرف أن المسرح هو أكثر ارتباطا بالتجربة الحية للإنسانية. إذن أين هي تجربتنا الحية في العروض التي فازت بالجوائز، أين نحن منها، هل نحن كمغاربة مشاركين فعليا في هذه الحياة ذات التجربة الراهنية، نلمس ذواتنا في هذه العروض.. عكس ذلك، لا نجدها، وهذا ينطبق أيضا حتى على مسلسلاتنا التلفزيونية التي تشابه الأتراك والمكسيكيين، بحيث تشاهد نماذج أخرى في الحياة، ليست من صلب تجربتنا وليست من خصوصيتنا.. أي لا تنتمي إلينا، وهذا الجانب مس حتى المسرح الأمازيغي، في شكله الجماعي والتفاعلي المبني على ما يسمنوه في الأمازيغية بـ”أمارك”. إذن نحن نُستلب بالجانب الشكلاني بمفهومه السلبي، أي بالنقل الغير مُفَكَّر فيه، والسعي نحو نموذج يعطينا نوعا من الحضور، لأن ما يهمنا فيه هو الوصول إلى الدعم، وهذا هو الهدف، ثم الوصول إلى التمثيلية على مستوى المهرجانات الدولية أو العربية أو القطرية. وهنا ينبغي التأكيد على أننا لا نقلل من هذه الأعمال، بل نراها من بُعد آخر. ذلك أن هذه الأعمال على المستوى التقني، متقونة جدا، لكنها فارغة على المستوى الجمالي والفكري.