بقلم: الأستاذ عبدالحكيم قرمان.
مقدمات منهجية
انشغل ولا يزال العديد من المفكرين والدارسين ومعهم الممارسون للشأن السياسي، على مر العصور، بالبحث والتحليل والدرس حول ثنائية “السياسة والأخلاق”، محاولين فهم وتفسير “الظاهرة السياسية” في مختلف أبعادها النظرية، والمؤسسية والعملية من جهة، ومجتهدين في تفكيك السياقات التاريخية والشروط السوسيوثقافية والسيكولوجية المتحكمة في فكر وممارسات الفاعلين السياسيين أنفسهم، وذلك سعيا منهم لرصد حدود التداخل والتباعد بين الحقلين السياسي والأخلاقي أولا، ولتقديم المسوغات النظرية القائلة بالتكامل والاتصال بين هذين المجالين، أو تلك المبررة لفرضية التنافر والانفصال بينهما ثانيا.
لذلك فان بسط النقاش والتداول من جديد حول هذه “الثنائية – الإشكال”، يعد غوصا في محيط صاخب الأمواج النظرية ومحفوف الأعماق بشتى ألوان الجدل والدجل. غير أن تجديد النقاش حول هذا الموضوع، يستمد في اعتقادي، أهميته وراهنيته من خلال ثلاثة زوايا نظر معتبرة:
أ – من حالة الارتجاج الفكري الكبير الذي أحدثته العولمة؛
فيما يتصل بضمور، إن لم نقل، وأد السياسة كمنظومة قيم تؤطر حياة الناس، وكممارسات عقلانية لتدبير شؤون المدينة، وكفن نبيل يعكس الثقة المتبادلة بين الحكام والمحكومين، عبر الاحتكام إلى المؤسسات والقوانين الناظمة لها، ويحدد قواعد اللعبة السياسية ومجالاتها، كما يتيح فرص الاشتغال والتباري السليم بين مختلف الفاعلين في المجال العام. لذلك فإن هذا “البؤس الفكري”، وتردي الممارسات، وخسوف الضوابط والأعراف والأخلاقيات في فضائنا السياسي عموما وفي المشهد الحزبي بشكل أخص، بات يعكس مأزقا فكريا حقيقيا في الفهم والتمثل لماهية ” الشأن السياسي في علاقته بالالتزام الأخلاقي، الشيء الذي يستدعي منا، ليس كممارسين للعمل العام فقط ، بل كمهتمين ودارسين وباحثين أيضا، إماطة الستار عن هذه الموضوعة الملتبسة المضامين والأبعاد، في سياق متجدد المقاربات والمفاهيم، ثم تسليط الضوء على زواياها المعتمة لتفكيك ألغازها في محاولة لإيجاد التوازن المفقود بين الحقلين المذكورين بما يعيد الاعتبار لهما معا في وعي وحياة الناس.
ب – من مأزمية أنماط الحكم السلطوية والهجينة في مختلف البقاع؛
وتتجلى هذه الأزمة في محيطنا العربي الإفريقي والإسلامي بشكل أدق، تلكم النظم التي يبدو من مجريات الأمور بها، أنها بلغت ذروة العجز والترهل والانشطار، ولعلها بالأحرى، تشارف إنهاء دورتها البيولوجية في الاستمرار والوجود. كما أن ما يجري الآن” في حظيرة بعض الأمصار العربية – الإفريقية والمتوسطية “، ينذر بالكثير من الأزمات والتحولات في الأمد المنظور وعلى المديين المتوسط والبعيد. وأمام وضع جيوسياسي مركب الأبعاد تعيشه مجتمعاتنا العربية منذ انبلاج فجر “الفورات الاحتجاجية العارمة”، تتعمق الهوة أكثر فأكثر بين مشاريع الدمقرطة من فوق، التي تشتغل عليها وتنشدها النخب السياسية والثقافية التقليدية منذ عقود (أحزاب ونقابات ومؤسسات ومراكز إنتاج القيم والمفاهيم والتوقعات) من جهة، وبين ديناميات التغيير الجماهيري من تحت التي باتت واقعا ملموسا فرضته “القوى الصاعدة الجديدة” الغير منتظمة في الإطارات والبنيات التنظيمية المشار إليها.
هكذا، يصبح الحديث عن راهنية الدفع بقيم التغيير الديمقراطي المنشدة للمساواة والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية مطلبا جماهيريا ضاغطا في تجاه رد الاعتبار للقيم النبيلة للفعل السياسي كآلية لتخليق التدبير، بما يحقق مصالح المجتمع قبل مصالح الفئات والأفراد، وتبعا لذلك، تتحدد المعادلة في سياق جديد يجعل من تغيير التمثلات القيمية، والممارسات السياسية التقليديتين، مدخلا أساسيا لإعادة تشكيل مضمون ومكونات المجال العام، ومن ثمة المرور نحو تقويض المصالح والذهنيات والممارسات المؤسسة لاستبداد الفساد والتمييع والإخضاع.
ج – من الوعي بالسياقات الدولية والإقليمية المتسمة بالأزمات الاقتصادية والمالية “لليبرالية الفوضوية”؛
في طبعتها المنقحة، وأمام المتغيرات المتواصلة التأثير والارتداد لفورات “الربيع العربي”، يتراءى للمتأمل في الوضع السياسي المغربي- بكل ما قيل فيه وعنه “من تفرد واستثناء” في محيطه الإقليمي، بروز”ثقافة سياسية”، أو قل صرعة سياسية جديدة غاية في “التفرد”، عارضوها “زعماء” وفاعلون سياسيون يلقبهم البعض بالزعامات الشعبية، و”بالجيل الجديد من القادة السياسيين” وهناك من وصفهم أيضا “برجال المرحلة القادرين على كبح جماح الإسلاميين، وللاختصار فقد قيل الكثير عن أبطال هذه “الموضة النضالية بالوكالة”، لدرجة أن هؤلاء صدقوا اللعبة واندمجوا في أداء الأدوار في تألق ساذج وغير مألوف لدى الطبقة السياسية المغربية… ويشهد لهم بكونهم تفننوا في إبهار المواطنين باعتمادهم خطابات سياسية مستوحاة من عالم الحيوان وقاموس التحريض بكل أصنافه.
الحقيقة الثانية، وعلى عكس ما جرت به العادة في عالم صناعة النجوم السينمائية، لم ينجح على ما يبدو كتاب السيناريو والإخراج في تحقيق المتعة والحرفية والجودة المطلوبة في العرض السياسي الذي تتبعه جمهور المواطنين على امتداد عقدين من “الفرجة” والإثارة في الترويج، وحتى باستعمال تقنيات العرض البطيء مع الدبلجة بلغة الفهلوة والتضبيع، في جعل أبطال مسلسلهم المفضل ” الريع والتمييع”، يقنعون ويؤثرون في الناس عبر أداء المشاهد المطلوبة بالرغم من توفرهم على كل الإمكانيات والمقومات اللوجستيكية والبشرية المدربة تاريخيا على مثل هذه الأدوار، في مختلف بقاع الظلامية والرجعية والتمييع …
فهل يمكن القول – من باب الولع بالسينما والنقد البناء والرصد الموضوعي لأحداث ومشاهد المسلسل، التي ربما قد شارفت على نهايتها المؤسفة، بأن عزوف المناضلين والموالين وكذا عموم المواطنين عن المؤازرة والانخراط في مثل هذه المشاهد المحزنة، يعد بمثابة إعلان عن نهاية الحفل بالنسبة لعارضي الموضة الإخوانية الجديدة: وكأن لسان حال هؤلاء المواطنين يقول: يا لهم من ممثلين فاشلين، وما أغباه من سيناريو، وياله من بؤس في الأداء والإخراج.
1 – مداخل لفهم سياقات الإشكاية
سنحاول فتح نقاش هادئ رصين حول موضوع السياسة في ارتباطها بالأخلاق، أملا في إثارة الانتباه لما يمكن أن تقود إليه “ممارسات سياسوية” مبخسة للقيم والمبادئ، ومبشرة بعهد تهمش فيه الكفاءات، وتغيب فيه العقول، وتقلب فيه الموازين والمفاهيم بغية تشويش المرحلة بكاملها، مما سيعطل مسيرة الإصلاح السياسي والمؤسساتي التي ناضلت من أجلها أجيال متعاقبة من القوى الحية ببلادنا لعقود خلت. ولعل التداول بشأن مجالات الدمقرطة والتحديث والإصلاح بمغرب ما بعد دستور يوليوز 2011، لم يعد من أولويات جدول أعمال جل المكونات السياسية ومختلف الفاعلين، الذين توافقوا في البدء حول مضامينه الأساسية. بمعنى أصح لم تعد كل الخيول على ما يبدو في مقدمة العربة. ففي الوقت الذي يتطلع فيه غالبية المغاربة إلى رؤية “مغرب الاستثناء الديمقراطي” محملا بكل وعوده في الرفاه الاجتماعي ومؤتيا لثماره في التنمية البشرية المستدامة، وأهمها إنجاح التجربة التي افرزها التمرين الديمقراطي لتشريعيات 25 نونبر 2011، نلاحظ أن هناك من يريد العودة بالتجربة الديمقراطية الفتية إلى نقطة البدء إن لم يكن نحو عوالم السلطوية المعتمة.
بداية سنتناول “ثنائية السياسة والأخلاق” وفقا لمنهجية الاستقراء الثلاثية الأبعاد، حيث سنقوم بجولة تفقدية لمحاورة ثلة من الفلاسفة والمفكرين والدارسين لهذه الموضوعة، المؤسسين منهم، ثم المجددين، فالمحدثين. كما سنلزم الفرضيات المعلنة بأدوات المناظرة بين مجمل الأطروحات الفلسفية والفقهية والقانونية المعروضة. ثم سنحاول استخراج الأسئلة الابستمولوجية والإشكالات النظرية البارزة في ثنايا هذه الأطروحات، لنعيد صياغتها استجلاء لنقط التلاقي والافتراق بينها، سواء القائلة منها بالتناقض بين المجالين السياسي والأخلاقي، أو تلك الدافعة في تجاه تلازم الحقلين.
بعد ذلك، سندلي ببعض الأفكار للتأمل حول إشكالية يعتقد الكثيرون أنها محسومة بفعل التقادم، أونتيجة لهيمنة الفاعل السياسي على مجمل آليات وحقول إنتاج الخطاب والمفاهيم، في مقابل ضمور صناع الرأي والقيم من أهل الفكر والقلم. وكخلاصة للمقال، وتبعا لما ستسفر عنه هذه “الرحلة المغامرة” من نتائج واستنتاجات، سنقترح بعضا منها كفرضيات قابلة للزرع والإنبات، كإسهام نظري متواضع، وكدعوة مواطنة لكل من يهمهم الأمر للتداول والحوار بشأن ما يتعرض له مجتمعنا عموما، ومشهدنا السياسي تخصيصا، من تداعيات خسوف منظومة القيم المشكلة لوعينا الجمعي وشخصيتنا المغربية.
2 – تأطير الأسئلة والرهانات المجتمعية
لقد ساد الاعتقاد لدى فئات واسعة من المجتمع لكثرة ما تم الترويج له عن قصد أو عن جهل، بأن التعاطي مع الشأن السياسي عموما والاشتغال به من أي مستوى كان، يستوجب بالضرورة التخلي عن التقيد بالقيم الأخلاقية للمجتمع، وبالتالي فان الحصول على صفة المناضل السياسي، أو الفاعل السياسي، أو رجل السياسة (الفعل يخص المرأة والرجل طبعا)، يخوله اللجوء إلى أساليب يختص بها دون غيره من المواطنين، تجعله بحكم “ضرورات الاشتغال بالسياسة” في حل من كل الضوابط والقواعد والقيم المتوافق عليها داخل النسق القيمي والاجتماعي الذي ينتمي إليه. وانطلاقا من هذا المعطى الأولي، الشائع في أوساط الكثير من الناس، يصعب التمييز بين الفاعل السياسي وغيره ممن هم موضوع اشتغال للسياسة من جهة، وكذالك يستعصي إعطاء تعريف محدد ومضبوط حول المواصفات الواجب توفرها في شخص بعينه كي يوصف “بالسياسي” ، وأمام تعقيد وضبابية التمثلات والتعريف والأدوار المنوطة بممتهن أو متعاطي السياسة بمعناها العام أو بالمعنى الحزبي الفئوي داخل المجتمع، يصبح رجل السياسة، تبعا لذلك، في نظر عامة الناس كائنا متميزا وخارقا وغريبا عن سياق مجتمعه.
وفي هذا الباب، ستجد الكثير من المتحدثين بكل ألوان الطيف “الحداثيين” منهم و”المحافظين”، و أصحاب “المنزلة بين المنزلتين”، يترافعون بإيمان راسخ وعقيدة لا تلين، بكون السياسة لا علاقة لها بالأخلاق لا من قريب ولا من بعيد، فهما مجالان منفصلان تماما عن بعضهما بالدليل والبرهان.
وسوف تجد في الضفة الأخرى كذلك، فريقا من المعارضين لا يقلون عزما ولا عددا أو شكيمة، ينتصرون لتلازم الأخلاق بالسياسة، بل ويؤكد البعض منهم على أن السياسة قد “توازي الحكمة”، في شمولية معارفها، ونبل مقاصدها، لكونها أنيطت عبر التاريخ برجال ونساء شيمتهم حسن التدبير في السراء، أشداء البأس في الضراء، وأهل فكر وذوي رؤية وأصحاب قضية وفضيلة. كما ستجد فئة ثالثة تتوسط الطرفين، تقول بالوسطية والاعتدال، وتعتبر السياسة في كنهها أسلوبا راقيا ومنظما لتدبير شؤون الناس وفقا لقواعد وقوانين وأعراف مرعية من لدن أهل المدينة (بمعنى الدولة ). من هنا تأتي ملحاحية تقديم تعريف لكلمتي “السياسة” و “الأخلاق” لوضعهما في سياقهما اللغوي الاصطلاحي من ناحية، ولكي نحدد ونؤطر المضامين الفلسفية والحمولة الدلالية لكليهما من ناحية أخرى.
3 – ثنائية السياسة والأخلاق في المعنى والدلالات
أ – الأخلاق والسياسة لغويا؛
كلا الكلمتين “الأخلاق” و”الإيتيقا”، تحيلان على نفس الحقل الدلالي عند استعمالهما في السياق العام، وهو الحقل الدال على مجموع قواعد السلوك الإنساني.
واشتقاقيا، فإنهما “Moral وEtica”، تحيلان على التوالي إلى “Mores أو Ethos”، إلى مجمل سلوكيات الناس المقيدة بعادات وتقاليد وأعراف مجتمعهم. من ذلك تواضع المجتمع على اعتبار هذا السلوك، أو ذاك، أخلاقيا أو غير أخلاقي، إيتيقي أو العكس، بمعنى أنه مستحسن أو مستهجن، مقبول أو مرفوض، متوافق مع مجموع معايير السلوك المشتركة بين جماعة من الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية المفترضة.
ب – السياسة: Política
السياسة لغة: مصدر ساس يسوس سياسة، من ساس الفرس، إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والرعاية.
ج – في الاصطلاح؛
تعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقلا عن معجم (روبير- Robert)- بأنها: فن إدارة المجتمعات الإنسانية. فهي الإجراءات والطرق المعتمدة لاتخاذ قرارات في شأن المجموعات والمجتمعات البشرية، ومع أن هذه الكلمة ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات، فإن كلمة سياسة قد تستخدم أيضا للدلالة على تسيير أمور أي جماعة وقيادتها ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة، والتفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد، بما فيها التجمعات الدينية والأكاديميات والمنظمات الحزبية والنقابية وغيرها . كما تعرف السياسة أيضا بكيفية توزيع القوة والنفوذ وفنون إدارة شؤون المدينة حسب الشروط التاريخية ونمط الإنتاج الاجتماعي ووفقا لنظام حكم معين.
د – الأخلاق والسياسة؛Política et Ética ؛
بعد تحديد المعاني اللغوية والدلالات الاصطلاحية للكلمتين موضوع المقال، نخلص إلى الإمساك بأولى خيوط الإشكالية المعروضة للدرس والنظر، حيث يظهر أن الرابط الدلالي متين بينهما بالرغم من التباعد الاصطلاحي للثنائية المذكورة. وعليه، فإذا اعتبرنا بأن السياسة في كنهها تعني فن قيادة الجماعة البشرية، وأشكال تدبير شؤونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجمل القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضاً أنه خير للجماعة، وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر من لدن نفس الجماعة. وهكذا فان كليهما (السياسة والأخلاق) يستهدفان تحقيق المنفعة العامة للمواطنين، وجعلهم يسعون لتدبير شؤونهم المشتركة وفقا لضوابط ومحددات ومرجعيات متوافق عليها، وبالتالي فإنهما يلتقيان في نقطة ارتكاز واضحة قوامها تحقيق المصالح الفردية والجماعية في العيش الكريم وبناء صرح متين للعلاقات الإنسانية تستجيب للمتطلبات المادية المشروعة للأفراد والمجموعات في إطار من التقيد بالأعراف والقيم والقوانين التي يعتبرها الجميع أخلاقيات الفعل والسلوك السياسي المحقق للمصالح العامة والخاصة على السواء.
4 – التأصيل التاريخي للقول بثنائية الأخلاق والسياسة
أ- المنطلقات الفلسفية لدى المفكرين المؤسسين
إن الغوص في التاريخ القديم والوسيط والمعاصر بحثا عن تلمس مجمل الأفكار والمقولات والأطروحات التي أسست، أو مهدت وبالتالي وضعت المنطلقات النظرية المؤطرة للحقلين السياسي والأخلاقي في تكاملهما أو تنافرهما، يقودنا بالضرورة نحو بدايات التشكل النظري للمفهومين السالفي الذكر. وهكذا، تنقشع أمامنا الإشراقات الأولى للفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي جمع في “مدينته الفاضلة” (كتاب الجمهورية) بين السياسية والأخلاق، معتبرا أن مثال الحكم السديد يرتسي على أربع فضائل ينبغي توفرها في الحاكم: أولها الحكمة بما تمثله من فهم وتمثل للفكر والمعارف والتأمل، وثانيها الشجاعة بما تقتضيه من طبائع الإقدام والجلد والعزيمة، وثالثها العفة، بما تمثله من ذكاء ونخوة ومروءة، ورابعها العدالة، وهي مواصفات الإنصاف وحسن التدبير وقوة الشكيمة عند تحمل المهام الكبيرة.
هكذا تمثل كبير مفكري اليونان مواصفات “الكائن السياسي” المنوط به تدبير شؤون المدينة والقيام على أمور ساكنيها، ومن لا تتوفر فيه هذه الفضائل فليبتعد عن حكم الناس. وعلى هديه سار تلميذه النجيب أرسطو معتبرا أن السياسة بما هي فن وعلم وقواعد محددة لإدارة شؤون البلاد والعباد، إنما هي تصريف اجتماعي منظم لقواعد السلوك المقيد بالأخلاق.
ومع ظهور الإسلام (مرحلة التأسيس) وعلى عهد الخلافة لاحقا، تشبعت الممارسات السياسة للدولة الإسلامية الصاعدة بحمولة معتبرة من القيم الدينية المستوحاة من القران والسنة النبوية، حيث عرفت الجزيرة العربية والأقطار المتاخمة لها أو تلك الواقعة ضمن مجال النفوذ الإسلامي، بروز مفاهيم ومقاربات واجتهادات فكرية تروم تقييد العمل السياسي للحكام والولاة بالضوابط الأخلاقية، وذلك من منطلق المزاوجة بين العقيدة والقول والعمل. ومن هنا تميز “فقه السياسة” إن صح القول (الآداب السلطانية) لدى مفكري الإسلام، بالنظر والاجتهاد الفلسفي الموصولين بمقاصد الشريعة، وبتفاسير الكتاب والسنة، وبمختلف التقاليد والأعراف السائدة آنذاك، وإن ظل التأثير اليوناني حاضرا من خلال العديد من المقولات والمفاهيم المؤسسة لهذه “الممارسة السياسية الخليقة.