بقلم: الإستاذ عبد الحكيم قرمان.
الجزء الثاني
التعدد اللغوي واقع تاريخي متجذر في تاريخ المغرب وفي البلاد المغاربية عموما، وهي الحقيقة التاريخية المميزة لشعوب البغارب منذ العصر القديم والوسيط والحديث. و لتدبير وظيفي أمثل لهذه التعددية اللغوية، قدمت الأمة المغربية خصوصا، منذ بدايات نشأتها، وعبر المراحل المتتالية لمسار تشكلها الاجتماعي، دروسا بليغة في التعايش والتبادل والابداع في شتى صنوف المعارف والعلوم بتوظيف لعبقريتها المغربية باحتضان التعدد والتنوع الثقافي واللغوي. كما انخرطت في مسارات الانفتاح على التبادل الثقافي والفني في الفضاء الإقليمي والعالمي (الفضاء المتوسطي في الماضي، الإفريقي والمشرقي) باعتبار هذه الفضاءات مجالات حيوية لتحقيق شروط الحياة والتطور والتحضر، كما نجحت في احتضار والتأثير في أحداث ووقائع وأنماط التفكير والعيش والتساكن مع مجمل الثقافات الكونية، وتفاعلها المثري لمختلف التعبيرات اللغوية ومتونها سواء المتكاملة منها أو المتنافسة، في المغرب وفي الأقطار المغاربية بصفة عامة منذ فجر التاريخ إلى اليوم.
وعلى مستوى التاريخ الواسع للمغرب، فقد اضطلعت اللغة الأمازيغية في أغلب المراحل، بوظيفة تمثيل الهوية العميقة من خلال أدوار التواصل في الحياة اليومية العادية وفي مجال الوجدانيات الفردية والجماعية، ومن خلال مختلف أشكال التعبير الأدبي والأسطوري التي نقلتها هذه اللغة في مختلف الأجناس ومن مختلف الأحجام، وعن طريق مختلف وسائط النقل بحسب العصور والقطاعات. بموازاة مع ذلك، ظهرت وتوالت عدة لغات ذات إشعاع إقليمي (الفينيقية، البونيقية (القرطاجنية)، اليونانية، العبرية-الآرامية، اللاتينية، العربية، الإسبانية، الفرنسية، الإنكليزية …) بوصفها شريكة سوسيو-لغوية، أدت في مجملها أدوارا متفاوتة الحضور والأهمية، بحسب العصور، وكذا القطاعات (التجارة، العبادة، الإدارة، العلوم والآداب، التعليم)، وذلك وفقا لــ”بورصة السوق اللغوية” والمبادلات الإقليمية والعالمية التي اندمج فيها المغرب على التوالي بدرجات متفاوتة طوال مراحل بروزه كدولة ذات سيادة.
ومنذ أواسط العصر الوسيط ومجيئ الإسلام، اضطلعت اللغة العربية، التي حلت محل اللاتينية في دورها القديم في هذا المجال الجغرافي، بنفس الدور الذي اضطلعت به في ذلك العصر في جميع مناطق المحيط الشرقي والجنوبي لحوض البحر الأبيض المتوسط (الفضاءات البابلية، والسريانية، والقبطية، والليبية القديمة-الأمازيغية)، ألا وهو دور اللغة العالمة ولغة الشعائر الدينية. وخلال هذه الفترة كلها، كان الثنائي العبري-آرامي المتكامل، يرافقها بصفته لغة الشعائر الدينية في أوساط الجماعات اليهودية، التي كانت ذات حضور مهم في المجال المغاربي
الأندلسي. وبعد عصور المجموعات المختلطة المتسمة بنوع من التداخل اليهودي-المسيحي، وبعد عصر الممالك ذات الصبغة اللاتينية في موريتانيا (المغرب الحالي جزئيا)، ثم بعد بضعة عقود فقط من اعتناق الإسلام على نطاق واسع في هذه المنطقة، سرعان ما غدا المتن الأدبي الناشئ للغة العربية، الدنيوي منه والمقدس (ولاسيما النص المؤسس، وهو القرآن) في مجموع الأراضي التي بدأ المغرب يبرز فيها كدولة-أمة، مادة تملُّكٍ ثقافي من طرف الأهالي كإطار جديد للإقرار المشروعية من أجل بناء سلسلة أخرى متتابعة من الدول ذات السيادة، تسمو على الإطارات الضيقة لكل أوجه التكتلات الداخلية، والتي شكلت في مرحل متطورة لتقدمها الاجتماعي والاقتصادي والعسكري وإشعاعها الديني والثقافي، إمبراطوريات كبرى ذات نفوذ وتأثير في إقليميا وقاريا ودوليا، لاسيما في مغرب الموحدين والمرابطين.
وطوال هذا العصر، لمعت أجيال من مشاهير النحويين، وعلماء اللغويات المقارنة، وكُتاب الرسائل والمقالات المختلفة، والفلاسفة، وعلماء الدين الإسلامي واليهودي، وفقهاء الشريعة، والمؤرخين، ورجال الأدب، والعلوم الرياضية، والطبيعية، الخ.، وكل أولئك قد تكونوا باللغة العربية وأنتجوا المعارف بها في تاريخ هذه المنطقة، وتألقوا في محيط حوض الأبيض المتوسط، مستفيدين في كثير من الأحيان، على الصعيد الفكري خاصة، من التعددية اللغوية والثقافية التي اتسمت بها بيئتهم المغاربية. ومن بين المظاهر الكبرى للفائدة المستمدة من هذه التعددية، وعلى وجه الخصوص، نشأة اللسانيات المقارنة المنهجية بالعربية-المهوّدة في هذه المنطقة داخل الجماعات اليهودي المعرّبة (ابن قريش، وابن بارون، وغيرهما)، وذلك قبل أكثر من خمسمائة عام على ظهور هذا الفرع العلمي في أوروبا في القرن الثامن عشر .
تشكل جديد لتنويعات “العربية المغربية” في نسقية “لسان موحَّد”
لم تبدأ الأمازيغية في الاستفادة من سياسة تخطيط سوسيو لغوي تيسر تجانس تنوّعاتها الجهوية إلا قبل وقت قريب جدا، في أعقاب صدور الظهير الملكي المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بتاريخ 17 أكتوبر 2001، كانت العربية المغربية قد حققت بالفعل تجانسا كاملا لكافة أوجهها القديمة (المراكشية، الجبلية، السوسية، الفاسية، العروبية، الوجدية، الفيلالية، الصحراوية، الخ.) خلال الخمسين سنة الأخيرة. وقد تم ذلك نتيجة حركية سوسيو- مهنية وبشرية (الهجرة القروية من أجل العمل، الوظيفة، التعليم الجامعي) تمحورت حول القطب الحضري الحديث لمثلث الدار البيضاء-القنيطرة-فاس وحول مركزه الجامع لمختلف الفئات الذي هو الدار البيضاء. وهي حركية رافقها على صعيد وسائل الإعلام الجديدة ترويج إذاعي ثم تلفزي على أمواج الأثير الوطنية، وإنتاج فني ترفيهي غني من المواد المذاعة والمتلفزة بذلك اللسان الدارج الموحد، كثيرا ما تسخر من الخصوصيات اللهجية المحلية على صعيد الألفاظ والنطق (شخصيات الفاسي، السوسي، الصحراوي، المراكشي، الجبلي، العروبي) ، ومن ديوان جديد من الأغاني الشعبية المغربية الحديثة والمسرحيات المتطورة أكثر (المقتبسة من المسرح الكلاسيكي)، وكلها مؤلفة بعربية مغربية تمحو الخصوصيات المذكورة.
وهكذا أصبحت العربية المغربية الدارجة، في جميع المجالات في المغرب، لغة موحدة وطنية للتواصل، تضطلع من ثم بأدوار أخرى بوصفها أداة وسيطة للتلقين شبه معممة (في الروض، وفي فضاء المدرسة وفي الشارع بحسب الحالات)، وذلك أيا كانت لغة البيت. وأصبحت كذلك وسيلة التواصل اليومي الأساسية، و أحيانا وسيلة التخاطب والتبليغ في الدعاية والمناقشات السياسية الحية (الحملات الانتخابية، شعارات المظاهرات، المناقشات الحادة في البرلمان)، وفي حملات تثقيف الجمهور وتوعيته (الصحة، البيئة، الخ.)، وفي الإعلان والإشهار التجاريين، وحتى في المناقشات الفكرية داخل المحافل العالمة والمدنية، وفي مدرجات الجامعات أحيانا. وقد أسفر استعمال هذا الطيف اللغوي الواصل ما بين العربية الفصحى والعربية المغربية الدارجة الموحدة في النهاية عن تشكل مستوى لغوي آخر هو العربية الوسطى.
مستوى “العربية الوسطى”
العربية الوسطى هي مستوى لغوي خاص بالنخبة العالمة، متخلص – مثله في ذلك مثل العربية المغربية الموحدة المستعملة يوميا – من كل الخصوصيات المعجمية والنطقية المحلية وذلك بفضل مفعول التمدرس الحديث وبروز نخبة جديدة مثقفة. وبالإضافة إلى هذا، فإن العربية المغربية الوسطى التي أنتجتها هذه النخبة المتعلمة، وتروجها وسائل الإعلام السمعية البصرية، والتي تستقي مادتها المعجمية بشكل متواصل، على يد تلك النخبة، من معجم اللغة العربية الفصحى والحديثة، كما يحصل في شعر الملحون لدى النخبة التقليدية منذ قرون، وذلك مع تبسيط صرف العربية الفصحى كما في نصوص الملحون (إسقاط الحركات القصار الأصلية وقلب المد وأحرف اللين إلى جيل جديد من الحركات)، ولتركيبها كذلك (إلغاء علامات الإعراب وأساليب التقديم والتأخير)، هذه العربية المغربية الوسطى تشكل جسرا سوسيولغويا سياقيا حقيقيا يتيح لطيف أوسع نطاقا من المتحدثين المختلفي التكوين أن يتواصلوا بلغة حية مشتركة تغطي وقائع ومعطيات سوسيواقتصادية وسوسيوسياسية جديدة، وذلك في نفس الوقت الذي تهيئ فيه شقا آخر من المجتمع للتعود على العربية المعيارية الحديثة نفسها، ولإتقانها عند الاقتضاء باعتبارها مستوى لغويا آخر سائدا في القطاعات والأوساط السوسيولغوية التي ينحصر فيها حتى الآن. كل هذا يضعنا أمام صورة سوسيولغوية عامة مفتوحة على آفاق تحديث ودينامية العربية الفصحى نفسها، تتأهل من خلاله لتصبح عبارة عن مستوى عال من مستويات الاستعمال السويولغوي للغة حية واحدة بالمعنى الحقيقي لعبارة “لــغــة حـيـة”، لغة تتجلى بأوجه مختلفة حسب اختلاف المستويات الوظيفية المتكاملة في الحياة العامة.