بقلم الأستاذ: عبدالحكيم قرمان.
غداة اعتماد دستور جديد للمملكة متم شهر نونبر لسنة 2011، وضعت الحكومة المغربية، ممثلة في وزارة الثقافة في مستهل تنصيبها منتصف شهر يناير 2012، سياسة قطاعية تتضمن مقاربة جديدة لتدبير القطاع الثقافي. وهي المقاربة التي قامت، إضافة إلى الحفاظ على مكتسبات المراحل السابقة، على تشخيص لنقط القوة والضعف وتحديد الحاجيات وترتيب الأولويات. وتندرج هذه السياسة ضمن منظومة إصلاحية تروم جعل السياسة الثقافية دعامة أساسية لتعزيز الهوية الوطنية الغنية بتعدد وتنوع روافدها والمنفتحة على الثقافات والحضارات الإنسانية، ودعم ومواكبة الإبداع الفني والثقافي في إطار الحرية والمسؤولية، وحماية تراثنا المتجدد على اختلاف مكوناته، والحفاظ على الموروث الأدبي والفني والعلمي، والعمل على الارتقاء بالأوضاع الاجتماعية والمهنية لمختلف شرائح المبدعين وحماية حقوقهم المادية والمعنوية والأدبية.
وقد ارتكزت هذه السياسة على ثلاث مرجعيات أساسية تتمثل في:
1) دستور المملكة، الذي خصص حيزا هاما من مضامينه لقضايا الثقافة والحفاظ على الهوية الوطنية الموحدة.
2) التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الواردة في عدة خطب كان آخرها خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2013 الذي ركز على الرأسمالي غير المادي كآلية لاحتساب القيمة الإجمالية للدول وكمعيار أساسي لإعداد السياسات العمومية .
3) التصريح الحكومي الذي نص على” الالتزام بالإجراءات الكفيلة بنهج ثقافة قرب حقيقية من خلال تعميم البنيات والخدمات الثقافية وصيانة التراث الثقافي والطبيعي وحمايته وتثمينه وتحسين حكامة الشأن الثقافي ومراعاة البعد الجهوي ومواكبة الإبداع والإنتاج والعناية بأوضاع المبدعين والمنتجين ومرافقة إبداع الشباب وتطوير سياسة دعم الإنتاج الوطني ونشره وتفعيل التعاون الثقافي الدولي وذلك وفق قواعد الجودة والتنافسية والمهنية والشفافية والشراكة”.
وتأسيسا على ما سبق، تبرز أهمية اعتماد مشروع برنامج عمل للتنمية الثقافية ولترقية الفنون في أفق إرساء صناعات ثقافية وإبداعية خلاقة للقيمة المضافة من الناحية الاقتصادية، وكذا بلورة مفاهيم حديثة ومبتكرة ضمن المنظومة الإدارية والتدبيرية للشأن الثقافي والفني في أفق التكامل والعرضانية الناجعة في كنف البنيا المجتمعية المنتجة للثقافة والفنون ووفقا لمناهج واليات الإدارية الحديثة، وتعميم الخدمات وتيسير الولوجيات للمرتفقين والفاعلين بالقطاع الثقافي والفني وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا.
ويتأسس هذا التصور التدبيري الاستشرافي والمجدد للمفاهيم واليات العمل والمقاربات، على جملة من المرتكزات الناظمة لاستراتيجية وطنية متعددة الأبعاد والوسائط لإرساء قواعد نهضة مجتمعية علمية ومعرفية وإبداعية تمتح من مضامين الرأسمال اللامادي للأمة المغربية في مجال الثقافة والفنون. ونعتقد بأن أهم المحاور الرئيسية التي ينبغي أن ترتسي عليها الرؤية الاستشرافية لهذا المشروع التنموي الكبير، تكمن في ما يلي:
1) على المستوى التنظيمي والتدبيري
• تطوير انفتاح القطاعات الحكومية الم على الفاعلين الثقافيين والفنيين، في إطار تكريس المقاربة التشاركية التي تنهجها الوزارة مع مختلف المتدخلين العموميين منهم والمتدخلة في الشؤون الثقافية والعلمية وسائر الفنون، على مختلف التعبيرات والفاعلين المشكلين لنسيج المهنيين والمجتمع المدني بكل تعبيراتهم واهتماماتهم بالمجال؛
• تكريس منهجية للقرب في التعاطي مع مختلف مكونات الجسم الثقافي والفني، تقوم على مفهوم واسع للقرب المجالي والأنثروبولوجي الثقافي، تتوخى تقريب الثقافة والفنون من المواطن المغربي بمختلف جهات المملكة؛
• تطوير اليات الشراكة والتعاون مع مختلف القطاعات الحكومية المعنية بالشأن الفني والثقافي في مجال تطوير البنيات والمؤسسات الفنية المتواجدة بغاية تقوية دعم الإبداع والمبدعين عبر الـتأسيس لبرامج محلية وجهوية لتنمية المبادرات العمومية والخاصة، في أفق التأسيس لنسيج من التظاهرات الفنية الكفيلة بالإسهام في المجهود الإنمائي الوطني، وذلك من خلال توجيه الدعم الذي توفره الوزارة لأوسع نطاق من المستفيدين، مع المواكبة والمساندة لمختلف التجارب الفنية الواعدة لإنتاج القيمة والإشعاع؛
• المساهمة في بلورة مشاريع وتظاهرات وبنيات تنظيمية وتدبيرية منسجمة بين المركز والجهات والأقاليم في إطار برنامج عمل وطني يستدمج مقترحات النسيج المدني والترابي والمؤسسات الداعمة للإبداع الثقافي والفني، تروم تنشيط الحياة الثقافية والفنية بمختلف تجلياتها، وتمكن من المساهمة القوية في صيانة وتثمين التراث الفني الثقافي عبر تأهيل وتحديث أليات عمل مختلف المكونات الفاعلة في إحياء وإشعاع التراث الفني الثقافي المادي وغير المادي وجعله آلية لإشعاع وترويج الثقافة المغربية؛
• تعزيز الدبلوماسية الفنية والثقافية إقليميا وقاريا ودوليا بما يعزز الحضور الفني والفنانين والمبدعين المغاربة في مختلف الواجهات الإبداعية، ويبرز الصورة الحضارية المشرقة للمملكة المغربية في الخارج، عبر تطوير الشراكات ومجالات التعاون والتمويل في إطار التكامل والانفتاح على ثقافات وفنون العالم.
2) في مجال التدبير الإداري.
فضلا عن إعداد الدراسات وإنتاج الدعامات والوثائق المرجعية والتأطيرية في مجال الفنون بمختلف تعابيرها، لتأطير العمل الثقافي ببلادنا وإبراز الأدوار الطلائعية التي تقوم بها الوزارة في الداخل والخارج في المجال الثقافي والفني، سيتم بد من الاستثمار بشكل أكبر في عصرنة ورقمنة وتوثيق المضامين، وكذا تحديث آليات الاشتغال بمختلف المرافق والمؤسسات العلمية والثقافية والفنية وفقا لرؤية تدبيرية جديدة تقوم على أساس تحديد المهام والوظائف ومجالات التدخل، بالإضافة إلى الاستثمار الأمثل للمؤهلات البشرية واللوجيستيكية والتواصلية التي تزخر بها الوزارة في مجال التدبير والارتقاء بالأداء وبالمردودية والإنجاز، مع الأخذ بعين الاعتبار الحقوق الثقافية والتنوع اللغوي ودور الثقافة في التنمية وكذا حماية وصيانة حقوق الملكية الفكرية للمبدعين وذوي الحقوق. ولعل أهم مداخل إرساء هذه النهضة العلمية والثقافية والابداعية في مختلف الحقول والمعارف والفنون، تقوم على:
• بلورة رؤية النموذج التنموي للنهضة ثقافية وعلمية لمغرب المستقبل
• وهي رؤية تقوم على مجموعة من البرامج المتكاملة، وتستهدف أساسا:
– حماية وتثمين التراث الثقافي الوطني وإرساء اقتصاد ثقافي كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذا هيكلة قطاع الفنون عبر إقامة تظاهرات فنية ثقافية وإبداعية كبرى، وتحسين وضعية الفنان وشروط ولوجه للمهنية والإنتاجية والتنافسية والتحفيز، والمشاركة في مختلف الواجهات الفنية ذات الصلة من خلال توفير التجهيزات الضرورية؛
– السعي لتحيين وتطوير آليات العمل المعتمدة في مختلف البنيات الفنية ومؤسسات التكوين الفني المتواجدة بربوع الوطن، مع إحداث بنيات ومؤسسات جديدة في إطار الميزانية المرصودة من طرف الوزارة لهذا الغرض، وكذا تطوير اليات التشجيع والتنشيط الثقافي والفني، والاهتمام بالثقافة وفنون العرض والفنون التشكيلية والبصرية الرقمية، وإحداث مهرجانات فنية موضوعاتية ومتخصصة لتنشيط الساحة الفنية في كل أبعادها وتعابيرها الوطنية الغنية والمتنوعة.