رشيد الحاحي
تعتبر قضايا الثقافة والهوية التي ترتبط بنقاش الأمازيغية والإسلام السياسي والحقوق والحريات من كبرى الأسئلة والخطابات والمشاريع الاجتماعية والثقافية التي برزت منذ نهاية القرن العشرين وشكلت عصب النقاش السياسي والحقوقي في المغرب ودول شمال إفريقيا؛ فهي في عمقها ومضمونها أسئلة فكرية تلتقي في تمحورها حول موضوع الهوية والتحديث انطلاقا من مرجعيات ومقاربات وأهداف مختلفة، بل ومتباينة. وهذا ما يؤكد أهميتها المنهجية والتحليلية في فهم واستيعاب طبيعة ومقومات هذه الخطابات والمشاريع التي تحملها، من جهة، وإضاءة ونقد جوانب أساسية من تحولات المجتمع والقوى المؤثرة فيه، وممكنات تطورها ومساهمتها في البناء الديمقراطي والتنموي والتطور الثقافي والحقوقي في الراهن والمستقبل، من جهة أخرى.
ارتبط نشوء خطاب الحركة الأمازيغية في المغرب الذي يعكس نشأة الحركة ذاتها ببروز وعي ثقافي عصري وتوظيف مجموعة من المقولات والمفاهيم النقدية والتصحيحية التي وفرها تطور المجالات الفكرية والعلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، وتحظى المعرفة والمقاربة الأنثروبولوجية بمكانة كبيرة في هذا الجهاز المفاهيمي والمتن الخطابي. فانطلاقا من نقد وإعادة التأسيس لمفهوم الثقافة ذاتها، ومفاهيم اللغة والتاريخ والهوية… استطاع الخطاب الأمازيغي أن يخلخل البرديغم المعرفي الذي هيمن لسنوات عديدة على التفكير الثقافي والسياسي والإنتاج المعرفي والخطابات الرائجة، وأن يبلور لمشروعية ثقافية وأن يؤسس لرؤية كبيرة ما لبتت تفصح عن أبعاد وإضاءات مجددة لتناول قضايا المغرب المعاصر، وللفكر والانتماء، وللنظرة إلى الذات والكون.
فإذا توقفنا عند العديد من المفاهيم المركزية والمقولات الثقافية التي يقوم عليها الخطاب الأمازيغي، يتضح بأن هذا الخطاب استفاد من تطورات عدة حقول معرفية منها اللسانيات وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، حيث تم توظيفها في خلخلة ونقد عدة أطروحات ويقينيات وأفكار ساهمت بشكل كبير في تكريس وضعية الدونية التي عانت منها الأمازيغية على عدة مستويات، بل وفي تبرير التمايز الثقافي واللغوي وسياسات الإقصاء التي اعتمدتها الدولة وحلفاؤها من الحركات والأحزاب والتيارات السياسية والإيديولوجية على امتداد أكثر من نصف قرن.
يرى لويس جاك دوري في نص مركز بعنوان “بناء الهوية” أن الهوية أصبحت من المفاهيم متعددة الاستعمالات التي يقبل على توظيفها الباحثون في العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل متضخم خلال السنوات الأخيرة، وأن نقاش الهوية والكتابة والتأليف حولها عرف وفرة ملحوظة منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، ويعزو هذه الوضعية، على الأقل جزئيا، إلى ارتفاع موجة الخوف واللا أمن الأنطولوجي في المجتمعات المعاصرة، خاصة بعد انهيار الثنائية القطبية التي سادت خلال الحرب الباردة وما نتج عن ذلك من هيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية من طرف القوى الكبرى. ولعل التحليل العميق يبرز ارتباط هذا التحول بنهاية اليقينيات الإبستمولوجية، ومنها نهاية الحداثة العلمية والتاريخ وسيادة التقنية والعولمة وبروز تحولات اجتماعية صادمة وتفاقم التباينات والصراعات المهددة للكيانات والثقافات.
من هذا المنظور تعتبر الهوية الثقافية من أبرز المفاهيم الإجرائية المرتبطة بخطاب وتحليل الهويات بشكل عام، ويمكن تعريفها باعتبارها ذلك المسلسل الذي يجعل مجموعة من الأفراد والجماعات يتقاسمون ويشتركون بشكل كلي أو جزئي في طريقة ومرجعية مشتركة في فهم الكون والمجتمع ومحاولة التأثير فيهما عبر التفكير والتبادل والممارسة؛ وذلك باستحضار الوعي بوجود أفراد وجماعات أخرى تفكر وتتواصل وتعمل بشكل مختلف عنهم.
وتتضح أبعاد المفهوم الثقافي هذه من خلال الخطابات الهوياتية التي صارت ذات حضور بارز في الفضاء الاجتماعي والسياسي الراهن بالعديد من المجتمعات، خاصة المسماة إسلامية؛ وذلك نتيجة مجموعة من التحولات الصادمة والعوامل السياسية والثقافية التي أججت سؤال الانتماء والهوية والعودة إلى الذات والخوف من الآخر، كما يتضح ذلك بشكل جلي في خطاب تيارات الإسلام السياسي، سواء الدعوية المعتدلة أو الجهادية العنيفة.
ومن الناحية الاجتماعية، فالخاصية والميزة الأولى للهوية هي أنها تقوم على العلاقة بالآخر، فليست خاصية جوهرية توجد في ذاتها بعيدا عن الآخرين، حيث إن الناس يشرعون في تعريف أنفسهم عندما ينتبهون ويدركون أنهم ليسوا منعزلين بل يتقاسمون المجال الذي ينشؤون وينمون فيه مع أناس آخرين يتفاعلون معهم في حياتهم الاجتماعية وفي مسارات العمل والإنتاج.
الميزة الثانية للهوية، هي أنها متغيرة، حيث إن طابعها العلائقي يجعلها تؤثر وتتأثر من خلال تبادلات المحيط والتواصل مع الآخر، مما يعني أنها ليست معطى ثابتا ونهائيا، بل هي سيرورة وبناء مستمر.
انطلاقا مما سبق، يتضح أن الحركة الأمازيغية في المغرب ساهمت بشكل بارز في تطوير النقاش الهوياتي انطلاقا من تصحيح انحرافاته وتعميق مساره المنفتح والحديث، كما يتضح أن اعتماد المقاربة العلمية والحقوقية في تدبير قضايا الهوية، وما يرتبط بها من إنصاف فعلي على المستوى اللغوي والثقافي، كما تؤكد تجارب الدول والمجتمعات المتقدمة في هذا التدبير، هي مقوم أساسي في البناء الديمقراطي والتحديث الاجتماعي والسياسي.