كتب نورس البريجة: خالد الخضري
1 – “حج وحاجة”
أن تقرأ لادريس المرابط ديوانه الزجلي الأخير (زينة البها) 2016، فإنك تسافر معه في رحلة بدوية، أو لنقل إنك تقوم معه “بنزاهة” أو تفويجة عروبية عريقة حيث تترادف الحكم والأمثال كما المصطلحات “البلْدية” المنغرسة في تربة سهل دكالة وعبدة وبواديهما الشاسعة، حيث تزدهر فلاحة البور، إلى جانب السقي والرعي وتربية المواشي، وتفرخ الأعراس حين تكون “الصابة” سخية والمحصول الزراعي وافرا، فيلعلع البارود إلى جانب الزغاريد في المناسبات كما المواسم الصيفية.
فإذا كنت ابن المنطقة ولديك رصيد معرفي “عروبي” بمعنى الكلمة، فإنك ستنعم بنزهتك بفضل ما ستغرفه من هذا المخزون التراثي الدكالي الأصيل. وإن لم تكن كذلك، فإنك ستنتعش بمعرفة معلومات تمتح من تراثها الشفوي الذي عمل ادريس المرابط على إعادة صياغته في أبيات زجلية محبوكة حرفيا. وفي كلا الحالتين ستحقق “حجا وحاجة” تجعلك تتماهى مع (زينة البها) وتعشقها بطريقتك.
2 – زنيْكة مفتوحة:
لا يحتكم الديوان إلى منهاج محدد تلتزم القصائد بمعياره شكلا ومضمونا، وإنما يمكن أن نقول إن ادريس المرابط كالفلاح الذي يترك قطعة من أرضه “راقدة” بدون حرث لترتاح، فينبث بها خليط من النباتات والزهور والأعشاب إلى أن تغذو “زنيْكة” تزهر بها في فصل الربيع شقائق النعمان الحمراء، وسط ورود “كلكازا” الصفراء كما أعشاب “التبش” و “كرينبوش” و “الحمّيضة” الخضراء، والتي يتناولها الإنسان والبهائم، لتغدو هذه الزنيكة حديقة عفوية مفتوحة دون سياج ولا حارس، يتنزه بها البشر كما ترعى فيها الدواب بحرية وطلاقة.
في “زينة البها” ترادفت المواضيع لتتحدث عن: السالف الكحل وطائر “أم سيسي” الذي يظهر فقط في فصل الربيع، وعن فكاك الوحايل وعن “لمنازل” الجوية حين يروح الليل وتغرب نجومه، فيصبح “الضرب مخلّف” وتختلط الألوان والأصوات والروائح فتزكم أنفك “ريحة الدوار” محملة بريحة العصيدة المخلطة بالزبدة، وتسمع “البكرة تزوك.. وتشاهد العجول اتيكك.. والنحلة تزنزن.. وكلكازة تصيكك” ثم يأتيك صوت الشكوة يهلل والحُمّارات ترد عليه بنخوة، وأنت تتناول “اللبن الصافي.. والحليب الزايد الطافح.. في حلاب أو زلافة من الطين بلسانها تزغرد وتصافح”.
في زنيكة “زينة البها” تجد الخديمة والكسكاس والدوار.. تجد الشكوة والحلاّب والبركال.. تجد الجامع والطالب واللوحة والتخريجة والمحضار.. تجد الخيمة والتوفري والروا والكاعة والمطامر.. تتناول التفلة والسميدة، وتتابع جميع تقلبات الجو عبر مختلف فصول السنة بدءا من مطر الخريف حيث ”تحلو ماكلة الشعير.. ويقوى الما في البير”.. وفي الشتاء وعز الليالي تسمع وترى صبية الدوار وهم يركضون هاتفين: “آلشتاتا تا تا تا.. صبّي صبّي.. راه اولادك في قبي.. راه امك تجري وتطيح.. راه اباك ادّاه الريح” مرورا بالسمايم وقت الحصاد حيث: “الرحبة ما تعمر بلا جماعة والكاعة ما تزيان بلا رباعة” وصولا إلى العنصرة التي فيها: “لقرع ابيض الراس.. اللي فيه النقرة والنحاس” إلخ…
وبالتالي، فهذه الحرية في التنقل من نبتة إلى أخرى، هي التي نلفيها في “الزنيكة” حيث لا يوجد حد فاصل بين نوع من النباتات أو الزهور، فالكل ينمو متشابكا متجانسا مع بعضه البعض، الشيء الذي يمكننا من قراءة الديوان بدءا من أية قصيدة أيا كان ترقيم صفحتها حتى ولو حدث ذلك من وسط أو آخر الديوان. وكأننا بصدد سيناريو دائري لفيلم أو رواية ليس لها بداية ولا نهاية ودون أن يحدث ذلك أي خلل في التلقي والتذوق.
3 – “اللي ما تعرف تشطح تقول الارض عوجة” !
رغم أن ادريس المرابط في صفحة الفهرس قد رتب قصائده في عدد 16، إلا أنها داخل زينيكة “زينة البها” تفوق هذا العدد، حيث تتناسل القصائد عن قُصيدات فرعية قد تنبت على شكل رباعيات أو أبيات أو حكم وأمثال… أو عناوين عيوط شعبية أو مقاطع منها حتى ولو لم تكن من نظم الشاعر ذاته. وتأرجحت هذه القصيدات أو الفواصل بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى، منها ما يتطلب من القارئ أحيانا معرفة سابقة بالخلفية أو المرجعية الأدبية والفنية لهذه الفواصل.
فمثلا بين قصيدتي: (يمكن) و (أنت هو/ أنت هي) وردت هذه الحكمة بالدارجة: “اللي ما تعرف تشطح تقول الأرض عوجة”
وفي مستهل هذه القصيدة الأخيرة كتب بالعربية الفصحى: “الباب مهما اتسع لا يستوعب تدفق نهر بشري دفعة واحدة”.. وأمام قصيدة (انت وانت) كتب: “جوج بيبان ادخلهم شي كثير وما طاحوا”.. بعد قصيدة (شفاء الروح) كتب: “يبقى الدرج ويرحل من يمشي عليه”.. وبعد (زينة البها): “البير اللي تشرب منو، ما ترميش فيه الحجر”
كما أحالت إحدى الفواصل على لفظة من آية قرآنية هي التي عنون بها قصيدة (فاستقم) لينهيها بالآية: “استقم كما أُمرت” والأمر هنا موجه للرسول الكريم حين قال تعالى في كتابه الكريم: ((فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير)) والقصيدة كلها ورغم قصرها (6 أبيات) ذات نفس فلسفي تدعو إلى الاستقامة وترجيح العقل على العاطفة والشهوات. ما يؤكد هذه القراءة، الفاصلة التي سبقتها والتي وردت باللغة العربية: “الإنسان ثلاث نفوس: عقلية، صدرية وبطنية، إذا تحكمت الأولى في الاثنتين قامت العدالة”
4 – “سولو الرّاغول آش سايريقول”؟
ومن حقل الفلسفة، وريحة الدوار، وهرج المسيد وفقيهه وطلبته… ينتقل المرابط إلى رحاب الموسيقى، والموسيقى الشعبية تحديدا لما لها من ارتباط قوي بفضاء “زينة البها” فتأتي هذه الموسيقى على شكل مقتطفات من عيوط حصباوية شهيرة وأغاني شعبية عريقة القدم، وكذلك من بعض الرسومات المرافقة، ليبدأ هذا السلم الموسيقي بصورة، ضمن الخمسة عشر لوحة التي أثثت بها الفنانة التشكيلية حياة الشوفاني الديوان بكامله، فتوفقت في تشكيل رسومات مناسبة للقصائد التي تقابلها، ففي الصفحة 65 رسمت ما يشبه قرص شمس أصفر يتناقص بريقه تدريجيا إلى أن يتحول إلى الأحمر القاني مرورا بالبنفسجي فالأرجواني، تلك الألوان الجميلة التي نعاينها مباشرة في مشهد الغروب حين يكون الجو صحوا. وفي وسط القرص رسمت آلة وترية تناثرت حولها نوتات موسيقية متنوعة، فغدت اللوحة تحيل على ما يشبه “ساعة موسيقية ” إن شئنا التعبير.
بعدها في الصفحة 66 يكتب الشاعر: “الفروج لحمر إيدوز في النحيرة” وهو مقطع من أغنية شعبية قديمة تحمل عنوان: “أنت قول لو آحميدة” هي التي اعتمدتها مجموعة ناس الغيوان في أغنيتهم: (السيف البتار) الذي يعني الموت، في المقطع الثاني الذي يردد:
- واه أنت قولو.. وقولو أخونا في الله
قبل أن يصل إلى المقطع الذي يرثي موت الإنسان الفقير الذي لا يمشي أحد وراءه، فيترك والدته كفيفة ليس لها سوى مقراج بدون غطاء وفروج (ديك) يكاد حبل عنقه يخنقه:
((مات الفقير يا احبابي حتى واحد ما مشى معاه…. خلا أميمتو عميا…. على خيالو حاضياه…. عندها مقراج النيرة…. غر بدركة ساداه….عندها “فروج النحيرة”…. غير القنب قاجّاه))
وعادة الديك الأحمر هو الذي يقدمه سكان البدو بالخصوص قربانا (نحيرة) يذبح أمام أضرحة أولياء الله الصالحين. فهي إذن ثقافة شعبية معتقداتية وموسيقية..
في الصفحة الموالية 67 يحل عنوان قصيدة: (الراغول) والراغول هو الخيط الرابع من الأعلى في الكمان “الألطو” الذي يستعمله الفنانون الشعبيون “الشياخ” لعزف أغانيهم وعيوطهم، فيأتي هذا الخيط بمثابة قرار أو جواب لبقية الأوتار الثلاثة والتي تتم دوزنتها من الأول للرابع، أي من تحت لأعلى على النحو التالي: Mi-La-Ré-Sol فيطلق اسم الراغول على الوتر الرابع “الصول” بدرجة منخفضة Grave وهو دو رنة شجية تحيل غالبا على المعاناة والشجن، ويعزف على مقامه كثير من العيوط والأغاني التي تثير هذه المشاعر، دليله ما ورد في القصيدة الحاملة لهذا العنوان في الصفحة 69 حيث نظم الشاعر:
“يا الراغول ليك عيطة حلوة… تصدح في الراس…. تدوي في فم الكاس…. تطرح العيا والنعاس …. يخرج كلام ف موزان منظومة…. أشعار وقوافي منغومة…. تحكي على الرشوق…. تحكي على الضيم…. تحكي على الفراق….تحكي على الغرام”
لكن قبل القصيدة وفي الصفحة 68 وفي سياق الفواصل التي تتناسل بين كل قطعة وأخرى، كتب لمرابط “عزيبو في المّيلحة” وهي عيطة حصباوية شهيرة وجميلة منسوبة إلى الشاعرة العبدية، حادة الزيدية الملقبة بخربوشة التي نظمت هذه العيطة في مدح أحمد بن القائد عيسى بن عمر، الذي كان يملك – أي الابن – ضيعة “عزيب” في منطقة (المّيلحة) في ضواحي حد حراره غير بعيد عن دار والده القائد عيسى. ومعلوم أن خربوشة كانت تحب الابن احمد.. وهذه القطعة نفسها تحمل عنوانا ثانيا هو: (سيدي احمد) حيث تتغنى فيها بمحاسنه بل وتتغزل فيه مادحة هندامه ولباسه وفرسه، كما تشتكي من هجره لها وللعزيب مما جعلها تسهر الليالي ولا تصفف شعرها لمدة سنة ونصف:
“يا و سيدي احمد….. على قبلك باتية نتسنى…. سيدي حبيبي…. حرك يا مول السناح الزيتي على قلبك بايتة عساسة…. هادا عام ونص ما مشطت رويسي… المضمة حاسكة رهيفة كامونية”
إلى أن تقول:
“وسبع سلامات في سلام ألغادي زربان….خلا عزيبو عن الميلحة”
وقطعة أو قصيدة “الراغول” في حد ذاتها تحيل على هذه العيطة التي تغنت بها خربوشة وباقي الشيخات من بعدها.. نظم المرابط:
“يا الراغول…. خيوطك تلاغي تفاجي الهموم…. عليك الشيخة غنات…. عليك البنات جذبات…. عليك لولاد سهرات”
5 – “تعجْبيني في قراية اللوحة “
ويستمر النفس الموسيقي وتحديدا العيطوي في الديوان بحلول بيتين من عيطة (العمالة) أو (الشاوية كواتني) المنسوبة لنفس الشيخة الثائرة حين فرت من عبدة إلى الشاوية طالبة حمى القائد العيادي الذي غدر بها وسلمها لعساكر القائد عيسى بن عمر فأنشدت:
“يا و الشاوية وكواتني وزادت ما بيّ …”
إلى أن تصل إلى البيتين اللذين أوردهما المرابط في الصفحة 76.
“الزين ما عليك بزين…. وأنت ظريفة…. تعجبيني في قراية اللوحة…. والحروف ثابتة”
خاتما الديوان/ الزنيكة بخماسية شاعرية حاملة كعنوان: ضمير الغائبة / الحالة في الديوان والشاعر على حد سواء: “هي” ولو أنه ديل سفره بقطعتين من ديوانه السابق (الكافلة)، لكن هاتين القطعتين – غير المعنونتين – حلتا فقط كدومتين شائكتين نبتتا وسط تلك الزنيكة فلم تعملا إلا على عرقلة المشي والتفسح داخل بساطها الربيعي المزهر، دون منحه إضافة تذكر. دليله أنه في حال حذف هاتين القطعتين، لن يؤثر ذلك على جمالية الديوان شكلا ومضمونا. بل بالعكس كان الحذف سيترك لهذا الأخير خاتمة بوحية وغزلية وأيضا موسيقية هي التي حبلت بها قصيدة “هي”. والمرابط نفسه ختم فهرست كتابه بالقصيدة ذاتها.
فزيادة على نسقها الغزلي والبوحي الآنف الذكر، فقد تشبعت “هي” بنفس موسيقي على مستوى اللحن والإيقاع سأبينه لاحقا، فحلت بمثابة “الكبة” و “الختمة” أو “القفلة” التي تنتهي بها العيطة. والديوان كله، يمكن اعتباره عيطة عشق، وبوح وسفر داخل الطبيعة.. والقبيلة.. والجهة والذات “الأنا” المشبعة باستيتقيا الفضاء/ مسقط الرأس والقلب على حد سواء، والمترعة أيضا “بحب الكتابة” هذا الوجع الجميل الذي ابتلينا به، فنتأفف منه دون أن نكف عن الدعاء بأن يزيدنا الله ابتلاء به!!.
نعم حب الكتابة والقراءة: “تعجبيني في قراية اللوحة والحروف ثابتة” هو الذي زكاه في افتتاحية الديوان المصاغة بعربية هي إلى النثر الشعري أو الشعر النثري أقرب تحت عنوان: (شفاء الروح).. فلا شيء يشفي الروح ويضمد جراح الكاتب سوى الكتابة نفسها ولو كانت هي التي تسببت في جرحه! فالمرابط حتى حين كان مقيدا إلى كرسي الإدارة غير بعيد عن عرين السلطة، كان يكتب وبأنانية سليطة أيضا، عاد ليتغزل مكررا ضمير المتصل “أنا” خمس مرات:
“أنا من جفف أنهار المداد المنصبة حولك….. أنا من شرع كتاب حياتك” (ص4)
هذه “الأنا” التي ستتناسل تدريجيا وعبر مختلف القصائد والفواصل الواردة بين دفتي الكتاب إلى أن تصل إلى قفلة الأنشودة: “هي” والتي يوحي نظمها الظاهر على التغزل بامرأة قد تكون من لحم ودم.. وقد تكون من خيال وحلم.. حلم الكاتب بالكتابة وفتنتها اللامتنهاية.. وذلك من خلال خماسية رائقة تحيل من حيث لحنها وإيقاعها على أغنية:
“هي هي جاية تصفار وتخضار….هي هي لايحة السالف على ليزار”
التي اشتهرت بها الفنانة الحاجة الحمداوية، لينشد بدلها ادريس المرابط قافلا عيطته أوزنيكته ب:
“هي تطمع في حزام مزوق جميل…. هي تعطي ريق عسل يشفي العليل….هي تمد العين الهايمة في خلخال و شربيل…. هي تفتل ضفيرة في نجوم كأنها الليل…. هي ترمي بسهام العشاق الهايمة في جنان ضليل”
****
قرقبوا عليها سوارت الربح