محمد طولون*
لا شك أن غذاء المبدع هو القراءة، المبدع بكل أصنافه أديبا كان أو شاعرا أو موسيقيا…، أما إذا تعلق الأمر بأحد أبرز أدباء القرن العشرين كفيديريكو غارسيا لوركا، فإن فعل القراءة سيكتسي لديه طابعا خاصا. كثير من الباحثين حاولوا كشف سر الإبداع لدى غارسيا لوركا بالنظر لكونه كان طالبا متوسطا ونقطه المدرسية لم تكن توازي موهبته. وبعيدا عن التقارير الأكاديمية حول تحصيله في دروس القانون أو الفلسفة وحتى الآداب، لوركا كان قارئا نهما لكل أنواع الكتب التي كان يجدها بمكتبة الأسرة أو في المكتبات العامة التي كان والده منخرطا فيها.
هكذا كانت قراءات غارسيا لوركا مختارة بعناية وتم توظيفها بشكل رسمت فيما بعد ملامح الشاعر والموسيقي والكاتب المسرحي المنحدر من مدينة غرناطة جنوب إسبانبا. قراءات شكلت أساس مبدع منبهر بفيكتور هوغو، متأثر بتحولات أوفيد، مسلوب ب” حلم ليلة منتصف الصيف” لشيكسبير… قراءات لوركا مهدت الطريق لميلاد عبقري تفتقت موهبته من مئات الكتب التي قرأها ووجد فيها الغموض القاتم والوسيلة المناسبة للتعبير عن أفكاره. لوركا تحالف مع الرمزية، ودرس التراث لينقله نحو الحداثة وعبر عن كل التابوهات في قناع الفن؛ بفضل أفلاطون و موريس ماترلينك الأديب البلجيكي (1862-1949) وأوسكار وايلد الروائي الأنجليزي/ الإيرلندي (1854-1900)، بالاضافة إلى أنطونيو ماتشادو الشاعر الإسباني (1875-1939)، ميغيل دي أونامونو الفيلسوف و الشاعر والروائي الإسباني (1864-1936) والشاعر الإسباني خوان رامون خيمينيث (1881-1958). عندما تفتح كتب لوركا المحفوظة في مؤسسة “غارسيا لوركا” بمدريد تجدها مليئة بالهوامش والملاحظات المهمة، كما يظهر في كتاب: “كنز المتواضعين” لموريس ماترلينك حيث كتب لوركا ” تحدثْ فضة واسكتْ ذهبا”…
كان المذهب الرومانسي من أهم إتجاهاته، لذلك دافع عنه كثقافه، فهو لا يرى أفضل منه سلاحا لانتقاد الأنظمة ومآزرة المظلومين. اهتم لوركا أيضا بالكلاسيكيات اليونانية والرومانية التي قربته من العالم الأسطوري، من “الندوة” لأفلاطون إلى ملحمة هسيود “ثيوجيني” أو (أصل الآلهة)، و كتاب “التحولات” لأوفيد، الذي أسَرَّ لوركا لصديقة مقربة منه بأنها “ستجد فيه كل شيء”، وعبرها ناجى لوركا العوالم الأسطورية في محاريب البحر الأبيض المتوسط، حيث وجد طاقة من الحب والاندماج الغريب والتغيير الجذري البعيد عن كل المعايير والذي يقوييه في لحظات الخوف من الرفض.
لا شيء كان يمنع لوركا من السفر نحو الحداثة، وهو ما وجده في أشعار روبين دارييو، الشاعر الإسباني (1867-1916)، والكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن، والقوة التي عرفها في أشعار ماتشادو وخوان رامون خيمينيث. سؤال الحداثة كان يشغله منذ البداية، رغم ما شاب أشعاره الأولى من عيوب، حيث كتب قصائدا طويلة جدا استجابة لرغبته الخاصة.
كل هؤلاء رسموا ملامح لوركا، الذي سماه هو نفسه “الفراشة الغارقة في المحبرة”. بالإضافة إلى ما ذكرناه نجد توماس إليوت (1888-1965)، والشاعر الأمريكي والت ويتمان (1819-1892)، والشاعر الإسباني بيكر (1836-1870)، والشاعر الإسباني خوسي ثورييا (1817-1893)، وبودلير…وفي كل نص كانت موهبة لوركا تتفرع ويحس فيه بفضاء أوسع حيث تَشَكَّلَ غارسيا لوركا “العبقري”.
*باحث في التراث الإسباني