كتب: د. خالد التوزاني
عرف المغرب خلال عام 2016 حركة ثقافية واسعة، تمثلت في تنظيم عدة فعاليات فكرية وفنية وعلمية توزعت جغرافيا على جل مناطق المملكة، وتخللت كل فصول السنة، كما تنوّعت على صعيد مجالات الفكر والإبداع، بل إن بعض الأحداث الثقافية المغربية حققت إشعاعا خارج الوطن، الشيء الذي يؤكد عودة المغرب الثقافي بقوة ليتبوّأ مكانته الريادية في خريطة الثقافة العالمية وضمن مجالات الفعل الثقافي المجدد والمبتكر، وأيضا المواكب لغيره من الثقافات الأخرى العربية والعالمية والمنفتح على محيطه العربي والإفريقي بعد نجاحه في خلق جسور من التواصل الثقافي مع مجموعة من البلدان في دول الخليج العربي وشرق آسيا، حيث تؤكد هذه الحركية الثقافية التي شهدها بلدنا المغرب خلال عام 2016 انتعاش الدبلوماسية الثقافية سواء تلك التي تقودها جمعيات ومراكز ثقافية أو من خلال أنشطة اتحاد كتاب المغرب، وأيضا من خلال أنشطة الجامعات المغربية، ويضاف إليها مشاركة المثقفين والباحثين المغاربة في مؤتمرات دولية خارج الوطن أو نشر بحوث ودراسات في مجلات علمية محكمة دوليا.
إن رصد الأحداث الثقافية التي شهدها بلدنا المغرب خلال سنة 2016، يقتضي فريقا من الباحثين، من أجل توثيق كل الفعاليات الثقافية وتتبع موضوعاتها ثقافيا وجغرافيا، وذلك على غرار بعض التقارير التي تُنجزها بعض المراكز العلمية والبحثية، في مجالات مرتبطة بالاقتصاد والسياسية والاجتماع..، لكن على مستوى الثقافة لا نجد تقارير بمواصفات علمية وموضوعية تتبع هذه الحركية الثقافية الواسعة التي يشهدها المغرب، مما يفوّت على بلدنا ورقة دبلوماسية قوية يمكن تسخيرها لتسويق صورة المغرب الثقافي المعاصر، وتحقيق مكتسبات في مجال السياحة الثقافية، إلى جانب التأثيرات الإيجابية لهذه الصورة المشرّفة على المخيال الجمعي للمغاربة نحو الحركة الثقافية والعلمية ببلادنا، وانعكاساتها أيضا على كل المشتغلين بحقول الفكر والثقافة والإبداع والتربية والتعليم والإنتاج الرمزي..، ولذلك فإن تقييم حصيلة الثقافة بالمغرب يمثل محطة أساسية للوقوف على نقاط القوة وتعزيزها واكتشاف الثغرات لتجنبها مستقبلا.
وإذا كانت الحركة الثقافية التي شهدها بلدنا المغرب خلال عام 2016 قد اتسمت بالغزارة والوفرة كمَّا ونوعا، فإنه من الإجحاف في حق الفاعلين في هذه الحركة والمتدخلين فيها أن يتم التركيز على حدث بعينه في جهة معينة، خاصة وأن اختيار حدث ثقافي معين واعتباره حدث الموسم كله، قد يخضع لانطباعات ذاتية تخص ميولات المثقف أو الراصد لهذا الفعل الثقافي ولا يستند هذا الاختيار إلى مبررات موضوعية تؤطرها رؤية علمية بمعايير متفق عليها قابلة للقياس العلمي والمعالجة الإحصائية والدلالية، ومن ثم فإني لن أتجرأ على اختيار حدث ثقافي بعينه وإقصاء باقي الأحداث الثقافية الأخرى، على الأقل في المرحلة الراهنة التي تعرف خصاصا في التقارير الثقافية السنوية التي ترصد جوانب الحركة الفكرية بالمغرب، على أن نعمل لاحقا لسد هذا الخصاص بتكوين فريق من الباحثين يعملون ضمن مركز ثقافي مهمّته رصد الحركة الثقافية وتتبع فعالياتها، وذلك إسهاما في تأطير “السيولة الثقافية” علميا، وتوجيهها وجهة تخدم صورة المغرب الثقافي المعاصر، إيمانا بدور الثقافة في تعزيز السلم الحضاري والتعايش الإنساني وإطلاق قدرات الإنسان والانفتاح على عوالم الإبداع الخلاق، خاصة وأن بلدنا المغرب يضم أول جامعة في العالم وهي جامعة القرويين، فلا غرابة أن تحتل الثقافة فيه مكانة مرموقة بين الأمم والشعوب.
السنة الجديدة 2017 : بشائر عودة المغرب الثقافي للواجهة
بناء على الحصيلة المشرّفة للحضور الثقافي المغربي عام 2016، نتطلع في السنة الجديدة 2017 إلى استمرار هذا الحضور، وتعزيزه بإنشاء مراكز بحث جديدة، وإطلاق مجلات علمية، إضافة إلى تحقيق تراكم ثقافي على مستوى حضور الباحثين والكُتّاب المغاربة في الفعاليات الثقافية وطنيا ودوليا، في مؤتمرات وندوات، وفي معارض الكتاب، وضمن فهارس المجلات العلمية المحكمة، وأيضا ضمن الفائزين بجوائز أدبية وعلمية وفنية..، ولا شك أن الحضور المغربي في مجال الفكر والإبداع سيعرف انتعاشا ملحوظا بفعل ولوج الجامعة المغربية نخبة من الباحثين الشباب من أجل التدريس وتأطير الطلبة وذلك في ظل تزايد أعداد الأساتذة الباحثين المحالين على التقاعد وأيضا في ظل الحاجة المتزايدة لهيئة التدريس بالكليات والمعاهد العليا، مع إنشاء كليات متعددة التخصصات في كثير من المدن المغربية، وتوسيع بنيات استقبال الطلبة، ويُضاف إلى ذلك أيضا مشروع دعم الأنشطة الثقافية الذي تسهر على تنظيمه وزارة الثقافة كل عام في دورتين، وقد أسهم هذا المشروع الرائد في طبع كثير من المؤلفات العلمية القيمة ودعم عدة مبادرات ثقافية ومعارض ومجلات، إلى جانب ما تنتجه المؤسسات الجامعية كل عام من المنشورات العلمية القيمة في مختلف ميادين الفكر والإبداع، وهي بشائر عودة المغرب الثقافي المعاصر ليحتل مكانته التاريخية الرائدة، ويبقى لأجل صيانة هذا النجاح الثقافي المغربي ترسيخ ثقافة الاعتراف وتثمين المنتوج الثقافي سواء بتكريم بعض الشخصيات أو منحها فرصا أكبر لإبداع أكثر إشراقا، وبالطبع فإن المستفيد الأكبر من هذه الحركية الثقافية هو الوطن بكل ما يحمله من أبعاد تاريخية وحضارية تؤهّله لتحقيق مكتسبات دبلوماسية وأخرى تربوية وعلمية وأيضا اقتصادية لها انعكاساتها النفسية والاجتماعية على كل الفئات العمرية والجهات الترابية.